الجزائر وفرنسا وتداعيات الذاكرة

04:32 صباحا
قراءة 4 دقائق

قبل أسابيع قليلة من زيارة الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند إلى الجزائر، المرتقبة في شهر ديسمبر/ كانون الأول المقبل، تشهد العلاقة الفرنسية الجزائرية حركية جديدة على خلفية التصريحات الأخيرة للرئيس هولاند التي أكد فيها أن الجمهورية الفرنسية تعترف بكل رجاحة ووعي بالطابع الدموي للقمع الذي سُلّط على الجزائريين في 17 أكتوبر/ تشرين الأول سنة 1961 في مدينة باريس، والذي أسفر عن مقتل مئات المتظاهرين السلميين الذين كانوا يطالبون باستقلال الجزائر . وأضاف هولاند في بيانه المقتضب الذي صدر عن قصر الإليزيه، أنه يتوجه بالتحية إلى ذاكرة الضحايا، بعد مرور أكثر من خمسين سنة على وقوع هذه المأساة .

وإذا كان الكثيرون يرون أن خطوة هولاند لم تصل بعد إلى مستوى تقديم اعتذار رسمي إلى الجزائريين على جرائم فرنسا الاستعمارية، إلا أنها أثارت بالرغم من ذلك، ردود فعل متباينة بين صفوف الطبقة السياسية الفرنسية، فقد رحب اليسار بهذا الاعتراف، وعدّه خطوة إيجابية من أجل التصالح مع معطيات الذاكرة التاريخية لفرنسا، بينما أجمعت تصريحات قادة اليمين الوسط وأقصى اليمين، على رفض هذه الخطوة التي تسيء - بحسب زعمهم - إلى مؤسسات فرنسا الديمقراطية وفي مقدمها الشرطة الجمهوريةالتي كانت تحرصفي عهد الرئيس الراحل شارل ديغول على أداء واجبها بكل كفاءةومهنية.

والحقيقة أن ما يثير الاهتمام بشكل أكبر بالنسبة إلى تداعيات هذا الموضوع، هي تلك التصريحات المتشنّجة الصادرة عن اليمين المتطرف، إضافة إلى المواقف التي عبرت عنها الجمعيات التابعة لقدماء المعمرين الفرنسيين في الجزائر المعروفين باسم الأقدام السوداء#171;، أو قدماء الجزائريين الذين جُندوا في صفوف الجيش الاستعماري الفرنسي وحاربوا جيش التحرير الجزائري دفاعاً عمّا كان يسمى بالجزائر الفرنسية#171;، الذين كانوا ينعتون بالحركي. ومن الأمور التي تدعو أيضاً إلى الاستغراب، الحدة البالغة التي ميزت مواقف جزء كبير من الطبقة السياسية الفرنسية والجمعيات الأهلية، وكأن حرب الجزائر انتهت منذ أشهر قليلة فقط، الأمر الذي يؤشر إلى أن فرنسا ليست مستعدة بعد من أجل القيام بمصالحة حقيقية مع عنصر أساسي من عناصر ذاكرتها الجماعية . كما أنها ليست مستعدة بالقدر نفسه للدخول في شراكة حقيقية مع الجزائر، لأن قسماً معتبراً من الرأي العام الفرنسي، مازال ينظر إلى حرب الجزائر، وكأنها كانت حرباً بين طرفين متكافئين ارتكبا تجاوزات متبادلة، وعليهما أن يعتذرا معاً عن جرائمهماالمشتركة؛ وفضلاً عن ذلك فإن جمعيات قدماء المعمرين الأقدام السوداءويهود الجزائر الذين غادروا البلاد بعد الاستقلال، ما فتئوا يطالبون السلطات الجزائرية بتقديم تعويضات عن ممتلكاتهم التي تركوها في الجزائر، ويتّهمون في اللحظة نفسها جبهة التحرير الوطني الجزائرية بقتل عدد كبير من المعمّرين الفرنسيين غداة الاستقلال، خاصة بمنطقة وهران، من أجل تخويفهمودفعهم إلى مغادرة الجزائر . كما أن قسماً منهم بات يطالب أيضاً بالحصول على الجنسية الجزائرية، وبحق العودة إلى الجزائر له ولأبنائه، ليس بصفة زائرين فقط، بل مواطنين كاملي الحقوق، والشيء نفسه يطالب به قسم من يهود الجزائر الذين خسروا جنسيتهم واحترام الجزائريين لهم عندما قبلوا بالقوانين الاستعمارية الخاصة بالأهالي التي كانت تمنحهم الجنسية الفرنسية إلى جانب المعمرين وتمنعها عن الأهالي مَجهىلَى مٌمن المسلمين الجزائريين .

وتعدّ وضعية هؤلاء إضافة إلى وضعية الحركىالذين غادروا الجزائر سنة 1962 الذين كان يقدر عددهم آنذاك، بأكثر من 60 ألفاً، من الملفات الشائكة التي تحول دون قيام شراكة حقيقية بين الجزائر وفرنسا، إذ إنه وفي اللحظة التي تسعى فيها الكثير من الجمعيات الأهلية الفرنسية المهتمة بالموضوع الجزائري من أجل الحصول على تنازلات جزائرية بشأن وضعية الحركيوالمعمّرين قبل الحديث عن أي شراكة محتملة مع الجزائر؛ فإن الأوساط الجزائرية المهتمة بشؤون التاريخ والذاكرة وفي مقدمها منظمتا المجاهدين وأبناء الشهداء، يرفضون من جانبهم أيّ تنازل للطرف الفرنسي بشأن هذا الموضوع، ويعدون ذلك بمنزلة خيانة لذاكرة شهداء الحرب التحريرية .

وهذه السخونة المفرطة التي تميز موضوع الذاكرة بين الجزائر وفرنسا، هي التي دفعت وزير الخارجية الأسبق في حكومة الرئيس ساركوزي السيد برنار كوشنير إلى التصريح، أن العلاقات الجزائرية - الفرنسية لن تصل إلى مستواها الطبيعي قبل انسحاب الجيل الذي شارك في حرب الجزائر من الحياة السياسية . وتدفع هذه المعطيات المتعلقة بالتاريخ الكثير من الملاحظين إلى القول إن الزيارة المقبلة للرئيس الفرنسي إلى الجزائر، وعلى الرغم من أهميتها بالنسبة إلى مسار العلاقات بين البلدين، فإنها لن تحقق كل أهدافها المسطرة، حتى وإن سلمنا جدلاً بوجود رغبة قوية لدى اليسار الفرنسي من أجل ترقية العلاقات بين الجزائر وفرنسا والسمو بها إلى مستوى الشراكة الاستراتيجية، وفق ما صرح به مؤخراً وزير الخارجية الفرنسي لوران فابيوس الذي أكد في السياق نفسه، أن الجزائريين لا يريدون معاهدة صداقة، ولكنهم يفضلون عليها معاهدة شراكة، وهو التصريح الذي رفض وزير الخارجية الجزائري مراد مدلسي الرد عليه .

ويأتي موضوع التدخل العسكري في شمالي مالي الذي تدعمه الحكومة الفرنسية، ليزيد من حدة التوجّس الجزائري من فرنسا، فشمالي مالي لا يضم مجموعات جهادية فقط، ولكنه يعرف أيضاً وجوداً كبيراً للانفصاليين الطوارق الذين تربطهم أواصر الأخوة والدم مع طوارق الجزائر . ويمثل كل ذلك جانباً من الأسباب الموضوعية التي تجعل الجزائر ترى أنها أضحت الطرف الأساسي المستهدف في إفريقيا، بعد أن أصبحت أكبر دولة إفريقية بعد انفصال جنوب السودان عن الوطن الأم، وخاصة أن هناك أطرافاً إقليمية كثيرة مازالت تلوم فرنسا الاستعمارية على ما تقول إنه كان بمرتبة تضخيملجغرافية الجزائر على حسابجيرانها؛ الأمر الذي دفع أحد السياسيين بالمنطقة، في ثمانينات القرن الماضي، إلى وصف خريطة الجزائر بأنها تشبه امرأة حاملاً انتفخ بطنها أكثر من اللازم! وتعتقد الجزائر أيضاً أنها تواجه وضعاً جيوسياسياً وجيواستراتيجياً صعباً، من منطلق أن أطرافاً مؤثرة في السياسة الفرنسية ما زالت ترى أن الصراع مع الجزائر لم يحسم بشكل نهائي، ويمكنها بالتالي أن تستثمر عدم الاستقرار في المنطقة لتصفية ما بقي من حساب تاريخي مع الجزائر .

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

أستاذ الفلسفة في جامعة وهران الجزائرية، باحث ومترجم ومهتم بالشأن السياسي، له العديد من الأبحاث المنشورة في المجلات والدوريات الفكرية، ويمتلك مؤلفات شخصية فضلا عن مساهمته في تأليف العديد من الكتب الجماعية الصادرة في الجزائر ومصر ولبنان

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"