التنمّر، من أسوأ وأبشع السلوكيات الإنسانية منذ بدء الخليقة، ولعل ما فعله قابيل مع هابيل بدأ تنمراً وانتهى قتلاً، وفي ظل الحياة المعولمة التي نعيش تحت ظلالها، بدأت يطفو الكثير من حالات التنمر التي لا تتوقف عند إيذاء الآخر نفسياً وبدنياً بالقول أو بالفعل، بل تنتهي بالقتل واستخدام السلاح؛ وقد نبّه العالم إلى مخاطر هذه الظاهرة التي لا تخلف سوى أجيال تعاني نفسياً وجسدياً، وتوسع الهوة بين الناس وتساهم في نشر مزيد من كراهية الآخر، فبدأت حملات عالمية وإقليمية ومحلية للحد منها، مستهدفة بشكل خاص النشء من تلاميذ المدارس وطلبة الجامعات باعتبار أنهم الأكثر تنمراً على بعضهم البعض، أملاً في مستقبل عالمي أفضل على مستوى الصحة النفسية.
قد يكون طبيعياً أن يمارس الناشئة على بعضهم، وخصوصاً ضعاف النفوس وعديمي المواهب والفاشلين دراسياً، بعض التنمّر، ولأنهم في طور التشكيل فإن التدخل يأتي بنتيجة إيجابية غالباً، ويخفف من حدة سلوكياتهم المؤذية للآخر.. إنما ليس من الطبيعي أن يكون التنمر نهجاً ثابتاً لدى بعض الرؤساء وأنظمة الحكم، وإن كنا نسلّم بأن صفحات التاريخ لا تخلو من تنمّر دول على دول، ولعل الاستعمار والتدخل في شؤون الآخرين ليس إلا نماذج صارخة للتنمّر في العلاقات الدولية.
اليوم، والعالم كله يعيش في أزمة مع فيروس قاتل يستهدف الإنسان أينما كان، وبصرف النظر عن عرقه أو لونه أو دينه أو مكانته الاجتماعية أو سطوته المادية أو سلطته الوظيفية، يعاني المجتمع الدولي أكبر حالات التنمّر، وبدلاً من أن يلتف حول بعضه ويتوحد لمواجهة العدو الخفي الذي انتشر في كل أرجاء الكوكب، ارتفع صوت الأنانية وكثرت الاتهامات المتبادلة وزاد التهديد والوعيد، وتصارعت الدول على حمل لقب منقذ الإنسانية التي لا تجد من ينقذها، بالإعلان عن دواء ليس له وجود، وكثرة الكلام عن لقاح لم تظهر له بشائر حتى الآن.
ولأننا نعيش في زمن تلاحقه الكوارث الطبيعية، فلا يجب أن نستغرب أن يكون سيد العالم هو سيد التنمّر فيه، وبدلاً من أن يجمع الرئيس الأمريكي ترامب قادة العالم حوله ويقود جهود إنقاذ الكوكب، نجده لا يدخر أي جهد في توزيع الاتهامات على الآخرين وفرض العقوبات والتهديد والوعيد بالانتقام من كل من يخالفه الرأي.
الرئيس الأمريكي لا يشغله سوى تحميل الصين مسؤولية انتشار كوفيد- 19، ولا تتوانى الصين عن الرد، والنتيجة أن «الكبيرين» في العالم دخلا في حرب تصريحات لا تخلو من المهاترات حول تخليق الفيروس في إطار الصراع على عرش الأرض، بدلًا من التعاون لإنقاذ البشرية.
أيضاً صب الرئيس الأمريكي جامَّ غضبه على منظمة الصحة العالمية متهماً إياها بمحاباة الصين وتأجيل إعلان كورونا وباءً عالمياً، وقام بتعليق مساهمة أمريكا في تمويل المنظمة، ورغم أن الكثيرين يعون أن المنظمة تأخرت في تصنيف الفيروس وباءً، إلا أن هذا ليس وقت معاقبة المنظمة الدولية الوحيدة المعنية بصحة البشرية.
سهام ترامب التنمّرية لم تنل فقط من الخارج، بل لم يسلم منها الداخل الأمريكي وخصوصاً الإعلام الذي يقف بالمرصاد ضد قراراته، ووصل به الأمر إلى حد تحريض مؤيديه على التظاهر ل «تحرير» ولايات حكامها ينتمون إلى الحزب الديمقراطي ويرفضون رفع الحظر، وذلك في إطار الصراخ بين «الجمهوري» و«الديمقراطي» قبيل انطلاق حملة الدعاية للانتخابات الرئاسية والتي سينافسه خلالها جو بايدن.
كل هذا التنمّر وغيره يمارسه ترامب من موقع ضعف خصوصاً وأنه هو الذي استهان بالفيروس في البداية، ووصفه بأنه مجرد إنفلونزا، وحسب «الواشنطن بوست» فإنه تقاعس في الاستجابة لمخاطر كورونا واستغرق الأمر 70 يوماً ما بين تنبيهه للمخاطر والبدء في المعالجة، مما يعني أن آلاف الضحايا الذين تساقطوا في الولايات المتحدة من الفيروس في رقبة الإدارة الأمريكية وليس في رقبة «عدم الشفافية» الصينية ولا «تقاعس» منظمة الصحة العالمية.
التنمّر ليس جديداً على الإدارة الأمريكية، ولكن ارتفاع حدّته هذه الأيام ليس له سبب سوى خشية ترامب من أن تتحول الانتخابات إلى عكس ما يتمنى بفعل كثرة ضحايا كورونا في أمريكا التي تحولت إلى دولة عالم ثالث، بعد أن عجزت عن المواجهة وطلبت المساعدات من دول منافسة و«لدودة» مثل روسيا والصين، بل وقرصنت على كمامات وأدوات طبية.
محمود حسونة
مقالات أخرى للكاتب
![الخليج](/sites/default/files/2024-07/Untitled-1_1.jpg)
![الخليج](/sites/default/files/2024-07/Untitled-1_1.jpg)
![الخليج](/sites/default/files/2024-07/Untitled-1_1.jpg)
![الخليج](/sites/default/files/2024-07/Untitled-1_1.jpg)
قد يعجبك ايضا
![خلال اجتماع هاريس مع نتنياهو في واشنطن (أ ف ب) خلال اجتماع هاريس مع نتنياهو في واشنطن (أ ف ب)](/sites/default/files/2024-07/6187046.jpeg)
![](/sites/default/files/2024-07/6187044.jpeg)
![](/sites/default/files/2024-07/6187043.jpeg)
![مشروع جديد لـ«الدار» في السعديات مشروع جديد لـ«الدار» في السعديات](/sites/default/files/2024-07/6187039.jpeg)
![«آيبيكس» تتحول للربحية بـ 23 مليون درهم في النصف الأول «آيبيكس» تتحول للربحية بـ 23 مليون درهم في النصف الأول](/sites/default/files/2024-07/6187035.jpeg)
![مقتل قيادي من حماس في الضفة خلال اعتقاله في سجن إسرائيلي مقتل قيادي من حماس في الضفة خلال اعتقاله في سجن إسرائيلي](/sites/default/files/2024-07/6187031.jpeg)
![ترامب يرفض مناظرة هاريس قبل تثبيتها رسمياً مرشحة للرئاسة ترامب يرفض مناظرة هاريس قبل تثبيتها رسمياً مرشحة للرئاسة](/sites/default/files/2024-07/6187023.jpeg)
![الزمالك يواجه بيراميدز بحارس شاب الزمالك يواجه بيراميدز بحارس شاب](/sites/default/files/2024-07/6187021.jpeg)