تنمّر «الكبار»

05:19 صباحا
قراءة 3 دقائق
محمود حسونة

التنمّر، من أسوأ وأبشع السلوكيات الإنسانية منذ بدء الخليقة، ولعل ما فعله قابيل مع هابيل بدأ تنمراً وانتهى قتلاً، وفي ظل الحياة المعولمة التي نعيش تحت ظلالها، بدأت يطفو الكثير من حالات التنمر التي لا تتوقف عند إيذاء الآخر نفسياً وبدنياً بالقول أو بالفعل، بل تنتهي بالقتل واستخدام السلاح؛ وقد نبّه العالم إلى مخاطر هذه الظاهرة التي لا تخلف سوى أجيال تعاني نفسياً وجسدياً، وتوسع الهوة بين الناس وتساهم في نشر مزيد من كراهية الآخر، فبدأت حملات عالمية وإقليمية ومحلية للحد منها، مستهدفة بشكل خاص النشء من تلاميذ المدارس وطلبة الجامعات باعتبار أنهم الأكثر تنمراً على بعضهم البعض، أملاً في مستقبل عالمي أفضل على مستوى الصحة النفسية.
قد يكون طبيعياً أن يمارس الناشئة على بعضهم، وخصوصاً ضعاف النفوس وعديمي المواهب والفاشلين دراسياً، بعض التنمّر، ولأنهم في طور التشكيل فإن التدخل يأتي بنتيجة إيجابية غالباً، ويخفف من حدة سلوكياتهم المؤذية للآخر.. إنما ليس من الطبيعي أن يكون التنمر نهجاً ثابتاً لدى بعض الرؤساء وأنظمة الحكم، وإن كنا نسلّم بأن صفحات التاريخ لا تخلو من تنمّر دول على دول، ولعل الاستعمار والتدخل في شؤون الآخرين ليس إلا نماذج صارخة للتنمّر في العلاقات الدولية.
اليوم، والعالم كله يعيش في أزمة مع فيروس قاتل يستهدف الإنسان أينما كان، وبصرف النظر عن عرقه أو لونه أو دينه أو مكانته الاجتماعية أو سطوته المادية أو سلطته الوظيفية، يعاني المجتمع الدولي أكبر حالات التنمّر، وبدلاً من أن يلتف حول بعضه ويتوحد لمواجهة العدو الخفي الذي انتشر في كل أرجاء الكوكب، ارتفع صوت الأنانية وكثرت الاتهامات المتبادلة وزاد التهديد والوعيد، وتصارعت الدول على حمل لقب منقذ الإنسانية التي لا تجد من ينقذها، بالإعلان عن دواء ليس له وجود، وكثرة الكلام عن لقاح لم تظهر له بشائر حتى الآن.
ولأننا نعيش في زمن تلاحقه الكوارث الطبيعية، فلا يجب أن نستغرب أن يكون سيد العالم هو سيد التنمّر فيه، وبدلاً من أن يجمع الرئيس الأمريكي ترامب قادة العالم حوله ويقود جهود إنقاذ الكوكب، نجده لا يدخر أي جهد في توزيع الاتهامات على الآخرين وفرض العقوبات والتهديد والوعيد بالانتقام من كل من يخالفه الرأي.
الرئيس الأمريكي لا يشغله سوى تحميل الصين مسؤولية انتشار كوفيد- 19، ولا تتوانى الصين عن الرد، والنتيجة أن «الكبيرين» في العالم دخلا في حرب تصريحات لا تخلو من المهاترات حول تخليق الفيروس في إطار الصراع على عرش الأرض، بدلًا من التعاون لإنقاذ البشرية.
أيضاً صب الرئيس الأمريكي جامَّ غضبه على منظمة الصحة العالمية متهماً إياها بمحاباة الصين وتأجيل إعلان كورونا وباءً عالمياً، وقام بتعليق مساهمة أمريكا في تمويل المنظمة، ورغم أن الكثيرين يعون أن المنظمة تأخرت في تصنيف الفيروس وباءً، إلا أن هذا ليس وقت معاقبة المنظمة الدولية الوحيدة المعنية بصحة البشرية.
سهام ترامب التنمّرية لم تنل فقط من الخارج، بل لم يسلم منها الداخل الأمريكي وخصوصاً الإعلام الذي يقف بالمرصاد ضد قراراته، ووصل به الأمر إلى حد تحريض مؤيديه على التظاهر ل «تحرير» ولايات حكامها ينتمون إلى الحزب الديمقراطي ويرفضون رفع الحظر، وذلك في إطار الصراخ بين «الجمهوري» و«الديمقراطي» قبيل انطلاق حملة الدعاية للانتخابات الرئاسية والتي سينافسه خلالها جو بايدن.
كل هذا التنمّر وغيره يمارسه ترامب من موقع ضعف خصوصاً وأنه هو الذي استهان بالفيروس في البداية، ووصفه بأنه مجرد إنفلونزا، وحسب «الواشنطن بوست» فإنه تقاعس في الاستجابة لمخاطر كورونا واستغرق الأمر 70 يوماً ما بين تنبيهه للمخاطر والبدء في المعالجة، مما يعني أن آلاف الضحايا الذين تساقطوا في الولايات المتحدة من الفيروس في رقبة الإدارة الأمريكية وليس في رقبة «عدم الشفافية» الصينية ولا «تقاعس» منظمة الصحة العالمية.
التنمّر ليس جديداً على الإدارة الأمريكية، ولكن ارتفاع حدّته هذه الأيام ليس له سبب سوى خشية ترامب من أن تتحول الانتخابات إلى عكس ما يتمنى بفعل كثرة ضحايا كورونا في أمريكا التي تحولت إلى دولة عالم ثالث، بعد أن عجزت عن المواجهة وطلبت المساعدات من دول منافسة و«لدودة» مثل روسيا والصين، بل وقرصنت على كمامات وأدوات طبية.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

كاتب صحفي، بدأ مسيرته المهنية عام 1983 في صحيفة الأهرام المصرية، وساهم انطلاقة إصداراتها. استطاع أن يترك بصمته في الصحافة الإماراتية حيث عمل في جريدة الاتحاد، ومن ثم في جريدة الخليج عام 2002، وفي 2014 تم تعيينه مديراً لتحرير. ليقرر العودة إلى بيته الأول " الأهرام" عام 2019

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"