تأملات أمريكية

02:26 صباحا
قراءة 6 دقائق
د.يوسف الحسن

} منذ عام 1953م، ينظم الكونغرس الأمريكي سنوياً، إفطاراً وطنياً للصلاة، يقام في أول يوم خميس من فبراير/ شباط، ويلقي فيه الرئيس الأمريكي خطاباً، أمام نخب سياسية وثقافية ورجال أعمال، فضلاً عن مدعوين أجانب.

} في فبراير/ شباط الماضي، ألقى الرئيس الأمريكي أوباما، في حفل الإفطار خطاباً مثيراً للانتباه، دعا فيه الأمريكيين إلى عدم مساواة تنظيم «داعش» بالإسلام. وذكّر المشاركين في هذا الإفطار «الروحي» بالفظائع التي ارتكبت باسم المسيحية في الحروب «الصليبية»، وأثناء «محاكم التفتيش» في إسبانيا والبرتغال. وطالب الأمريكيين بعدم «التعجرف» و«الظن بأننا أفضل من الآخرين، وأكثر ذكاء منهم»، حسب تعبيره.
} وقد أثار هذا الخطاب، غضب نخب إعلامية وسياسية يمينية كثيرة، ووصف بعضهم الخطاب بأنه «كلام مراهقين» و«مبتذل»، ودافع آخرون عن الحروب «الصليبية»، ووصفوها بأنها كانت «رداً على غزو الإسلام للأرض المقدسة»!! ودافع بعضهم عن المسيحية، باعتبارها «قوة لإصلاح الإنسان». رغم ارتكاب «باباوات» فاسدين لفظائع وعنف وحروب، صنعت الكراهية والخراب، ولم توفر أحداً، من مسلمين ومسيحيين ويهود.
} لم تعرف أمريكا في تاريخها القصير نسبياً، أية حروب دينية، بل كانت موئلاً وملاذاً للهاربين الأوروبيين بعقيدتهم حينما كانت أوروبا تعاني حروباً دينية داخل العقيدة المسيحية الواحدة، استمر بعضها لأكثر من ثلاثين عاماً، وأسفرت هذه الحروب عن مقتل ما لا يقل عن ربع سكان ألمانيا، والتي كانت مركز الإمبراطورية الرومانية «المقدسة». وارتكبت مجازر بشعة بحق البروتستانتية، في إنجلترا وهولندا وغيرهما.
} كان التعصب والعنف المسعور، والغلو الديني والعقل اللاهوتي المغلق، وراء هذه الكوارث الإنسانية طوال القرنين السادس عشر والسابع عشر. ومن هنا جاءت دعوة فولتير وجون لوك إلى «التسامح» وبداية عصر النهضة والنزوع الإنساني في القارة الأوروبية.

} } }

} في أمريكا، كانت هناك عنصرية من نوع آخر، تطال «السود»، وتنظر بريبة نحو «اليهود» والكاثوليك، لكنها كانت أيضاً ملاذاً للحرية، وللمحرومين منها، وفرصة لتجسيد أحلام المهاجرين.
} في صيف عام 1871م، وقف النحّات والفنان الفرنسي (بارثولدي) في ميناء نيويورك، بعد أن تم تكليفه بمهمة نحت تمثال يرمز إلى الحرية، يوضع في مدخل مدينة نيويورك، وكان هذا الفنان الفرنسي شديد الإعجاب بفن النحت المصري القديم، وبعظمة التماثيل الفرعونية الهائلة الحجم.

} مكث هذا الفنان شهوراً في نيويورك، يخطط على الورق أفكاره، حتى اختمرت في ذهنه، وتجسدت في تمثال لامرأة.. ذكّرته بواحدة من آلهة الإغريق القديمة، ترتدي ملابس واسعة تشبه ملابس الإغريق، واستغرق عمله خمسة عشر عاماً، وصنع تمثال الحرية من النحاس والحديد ، وسمى تمثاله (الحرية تضيء العالم).. وأصبح هذا التمثال المنتصب في مدخل خليج نيويورك، على جزيرة الحرية، وبارتفاع قدره ثلاثة وتسعون متراً، أحد مواقع التراث العالمي، وأهدته فرنسا إلى أمريكا في عام 1886م، بمناسبة الذكرى المئوية للثورة الأمريكية.

} ومما تجدر الإشارة إليه، أن هناك مئات من تماثيل الحرية تمت إقامتها في باريس والنمسا وألمانيا وإيطاليا والصين وفيتنام وغيرها.

} ويرمز هذا التمثال في نيويورك إلى سيدة تحررت من القيود والسلاسل التي ألقيت عند قدميها، وتمسك في يدها اليسرى كتاباً نقشت عليه جملة (4 يوليو 1776)، وعلى رأسها تاج مكون من سبعة أسنة، تمثل أشعة ترمز إلى البحار السبعة في العالم.
} سألت «لويس فراخان» أحد كبار زعماء المسلمين السود الأمريكيين، حينما زرته في أواسط الثمانينات، عن تمثال الحرية، فأجاب مبتسماً: «إنها حرية الرجل الأبيض».

} } }

} في أزمنة بناء تمثال الحرية نفسها، بدأت طلائع الموجات الأولى من المهاجرين العرب إلى أمريكا، وكانت أول موجة قادمة من لبنان وسوريا وفلسطين، إثر تردي صناعة الحرير والدخان، والركود التجاري، والقمع التركي، هاجر مزارعون كثر من أجل الكسب المادي ثم الرجوع إلى الوطن، وكانت أشهر التمنيات التي يرددها هؤلاء المهاجرون «قَرّب الله يوم العودة للوطن».
} وكانت نيويورك، هي محطة الوصول الأولى، ومدينة الفقراء القادمين إليها من كل مكان، وكان شارع واشنطن في نيويورك، يجسد قرية عربية مصغرة، بمقاهيها ومطاعمها، والعربات التي تبيع الأشياء الرخيصة، وعاش في هذا الشارع، جبران خليل جبران، وبقي العرب المهاجرون في هذا الشارع عشرات السنين، ولم يغادروه إلا بعدما أقيم مكانه جسر (باتيري)، فانتقلوا إلى شارع (أتلانتيك) في منطقة بروكلين، وزائر هذا الحي، لا يستغرب سماع الأغاني العربية بصوت عالٍ، ومشاهدة محال الحلويات الشامية والمقاهي ورائحة التوابل والمخابز ودكاكين الفول والقهوة ومشاوي الشاورمة، وجاء إلى هذا الحي فيما بعد مهاجرون من فلسطين واليمن ومصر والعراق.. إلخ.
} بدأ جبران خليل جبران حياته مع والدته المهاجرة في نهاية القرن التاسع عشر، واستقر في الحي الصيني في مدينة بوسطن.. ثم انتقل إلى نيويورك، وأسس فيها «صومعته»، وفيها بدأ الكتابة والرسم، بعد أن أوفدته سيدة أمريكية ثرية، لتعلم الفن في باريس، حيث تتلمذ على يد المثّال الشهير (رودان)، وتأثر بفنه وخطوطه، وتعرف هناك إلى أمين الريحاني، وظهر نبوغه ككاتب ورسام وشاعر، وفي عام 1918م أصدر كتابه «المجنون»، وقد أعيد طبعه لأكثر من مئة مرة، وترجم إلى عشرات اللغات. وفي عام 1923م أصدر كتابه «النبي»، الذي تحوّل مؤخراً إلى فيلم (رسوم متحركة).
} ويضم هذا الفيلم، وقد شاهدته مؤخراً في أبوظبي، أكثر من ست وعشرين قصيدة نثر، ترجمت إلى أكثر من أربعين لغة، ويتحدث فيها عن جوانب مختلفة من الحياة، كالعمل والصداقة والزواج والأطفال والمحبة، ومنها الأبيات الشعرية التي غنتها فيروز، والتي تقول: «أولادكم ليسوا لكم، بكم يأتون إلى العالم، ولكن ليس منكم» و«إذا المحبة أومت إليكم، فاتبعوها، وإن كانت مسالكها صعبة متحدرة».
} وقد أسهم في إنتاج وإخراج هذا الفيلم عدد كبير من الفنانين، من فرنسا وكندا ولبنان وأمريكا والإمارات وقطر، وعرف كتاب «النبي» شعبية كبرى في أمريكا والغرب، وصدرت منه نحو مئة وستين طبعة حتى اليوم.

} } }

} زرت قبل عامين مدينة (سيلم Salem) في رحلة بحرية من بوسطن الأمريكية، وهي مدينة بحرية اشتهرت بصلاتها التجارية مع سواحل إفريقيا والجزيرة العربية، وبكونها أحد المراكز المهمة التي هاجر إليها بريطانيون وهولنديون، من أتباع المذهب الكالفني البروتستانتي قبيل تأسيس أو استقلال أمريكا، إضافة إلى كونها المدينة التي أقيمت فيها «محاكمة للساحرات» في نهاية القرن السابع عشر.
} كانت قصة «الشيخ الأبيض» التي كتبها صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي ونشرت في عام 1996م، من بين أسباب قيامي بهذه الزيارة البحرية إلى مدينة (سيلم). وظلت صورة بطل القصة عالقة في ذاكرتي، وأنا أتجول في شوارعها ومينائها البحري ومتاحفها التاريخية.. وكأني أبحث عن جذور عائلة بطل القصة.
} وتروي القصة، حكاية حقيقية، عن طفل من أصل هولندي، ابن لتاجر أمريكي في (سيلم) بعث بسفينة له إلى شواطئ الجزيرة العربية لشراء «القهوة» من ميناء المخا اليمني، وأرسل ابنه الذي لم يتجاوز عمره السنوات العشر، على ظهر سفينته برفقة عمه، بهدف تدريبه ليصبح بحاراً ماهراً في المستقبل.
} رحلت السفينة في منتصف نوفمبر/ تشرين الثاني في عام 1805م متوجهة إلى البحر الأحمر، مروراً بساحل البرازيل ورأس الرجاء الصالح، ووصلت إلى ميناء عدن في بداية مارس/ آذار من عام 1806م.
} ويبدو من الرواية، أن السفينة الأمريكية، التي تحمل الطفل (بول) قد وقعت في مصيدة نزاعات بحرية ومنافسات تجارية في منطقة قريبة من جزيرة (كمران)، مما أدى إلى قتل البحارة الأمريكيين والاستيلاء على ما في السفينة من أموال وبضائع.
} ومن حسن حظ الطفل، أنه كان مختبئاً برفقة خادم من المخا، وحينما تم إحضارهما للتاجر العماني محمد بن عقيل، تشفعت في الطفل زوجة التاجر، واتخذته ابناً لها، وسموه عبد الله بن محمد بن عقيل.
} وقد نشأ الطفل وكبر في مدينة مسقط.. ثم انتقل إلى ظفار، ودرس علوم الدين واللغة العربية، ولبس اللباس العربي، وتمنطق بخنجر عربي، وأحب وصيفة «والدته»، وتزوجها وأنجب منها، ومارس التجارة والسفر مع «والده».. ورفض الكثير من المحاولات الأمريكية الرسمية للعودة إلى موطنه في (سيلم).
} دخل «والده» في حروب ومنافسات مع تجار وشركات فرنسية وبريطانية، وتعقبته السلطات البريطانية، بعد أن سيطر على مدن وسواحل ظفار، كما دخل في حروب مع إمام اليمن، وتحالفات في الحجاز ونجد ومصر.. حتى تم اغتياله في عام 1829 في صلالة.. وورثه في تجارته ونفوذه ولده عبد الله (بول سابقاً). وعاش شيخاً لقبيلة (القرا) مدة طويلة، وكان يلقب بالشيخ الأبيض.. ومات (بول) ودفن في صلالة.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

إعلامي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"