جدل الدين والحداثة

02:52 صباحا
قراءة 3 دقائق
د. مصطفى الفقي

أوصى نبينا الكريم بالجار خيراً في امتداد إنساني إلى الجار السابع، فما بالنا إذا كان هو جاري مباشرة على صحيفة «الأهرام» القاهرية، وليس بالطبع ذلك هو دافع الكتابة عن الكتاب الذي جعلت اسمه عنواناً لهذا المقال احتفاء بعقلية متوهجة وفكر عميق لفيلسوف معاصر هو الكاتب الصحفي صلاح سالم، الذي يبدو الكثيرون مبهورين به، لكنهم للأسف من الصفوة الفكرية والنخبة الثقافية، لأن عمق كتاباته وشمول رؤيته لا تسمحان دائماً بتداول ما يكتب أو المضي فيه شأن موقف العامة من كبار الفلاسفة والمفكرين، وكتاب (جدل الدين والحداثة) هو في نظري كتاب عام 2017، وفي ظني أيضاً أن صاحبه لم يلق التكريم الكامل من الدوائر الثقافية والفكرية والمدارس الفلسفية المعاصرة في مصر، رغم أنه حصد بعض الجوائز العربية والدولية.
نعم.. لقد كتب عنه الصديق د. أسامة الغزالي حرب في عموده اليومي بالأهرام منذ شهور عدة، وقد أعطاه فيه بعض ما يستحق وها أنا أضم اليوم صوتي إليه مبشراً بميلاد فيلسوف مصري كبير، وكأنما أردد قول عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين لدى استقباله لأول أعمال الفيلسوف المصري الراحل د. عبد الرحمن بدوي! والكتاب الذي بين أيدينا اليوم نشرته الهيئة المصرية العامة للكتاب، ويقع فيما يزيد على خمسمئة وسبعين صفحة من القطع الكبير، ويبدأ الكاتب الفذ مقدمته تحت عنوان من الموقف التوفيقي إلى منهج النقد التاريخي، يقول صلاح سالم: «يرتبط مدى حضور الدين أو غيابه بقدرته على تكريس روحانية مؤمنة ينمو معها الشعور بالتواصل مع المقدس على نحو يكفل طمأنينة للنفس، وتساميها على الغرائز، وتناغماً مع المبادئ الأساسية للوجود، وهكذا تنمو العوالم الداخلية للإنسان؛ إذ يرتبط المؤمن رأسياً بعالم الغيب على نحو يذكره بمآله ومصيره، ويستخرج منه أنبل ما فيه كالضمير الأخلاقي المريد للخير، والهيّاب من الشر، المدفوع إلى الحق، والرافض للظلم، كما يرتبط أفقياً بعالم الشهادة؛ حيث البشر الآخرون ربطاً يقوم على المحبة والتراحم، ويناهض القسوة والعنف».
ثم ينتقل بين صفحات كتابه في عمق المفكر، ورشاقة من يسيطر على الأدوات البحثية لموضوعه سيطرة كاملة، فهو يقول تحت عنوان نهاية الفلسفة أم تواضع الفلاسفة؟: «مر القول بنهاية الفلسفة عبر موجتين أساسيتين، الأولى: جاءت في وقت مبكر كثيراً حتى قبل (كارل ماركس) الذي قال تلك النهاية منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر باعتبار أن الفلسفة ليست إلا مستودعاً لطموحات البشر الحالمين، وبفعل بلوغ المادية الجدلية محطتها النهائية؛ حيث يكمن المجتمع الشيوعي الذي سيتحرر فيه الإنسان من سطوة رأس المال ويتحرر الوعي من سطوة الأوهام، فإن الرغبة في التفلسف سوف تتوقف». ثم ينتقل المفكر المصري الواعد ليتحدث في مبحث مثير عن تأزم مشروع الإصلاح الديني، وتحت عنوان الامتداد التاريخي والإسلام السياسي يقول: «وربما كانت دعوة الإمام محمد عبده إلى الإصلاح الديني في السياق الإسلامي مطلع القرن العشرين أكثر عمقاً من دعوة مارتن لوثر إلى الإصلاح في السياق المسيحي مطلع القرن السادس عشر، فلقد سعى المُصلِح البروتستانتي إلى تحرير المسيحي من سلطة الكنيسة ومن هيمنة أعمال وكتابات كبار باباواتها وقديسيها، مؤكداً على محورية الإنجيل وإتاحة قراءته لكل مسيحي كفرد حر خصوصاً بعد أن قام بترجمته من اللاتينية إلى الألمانية، أما الإمام المسلم محمد عبده فقد طمح إلى تجديد رسالة التوحيد نفسها؛ إذ رأى في النص القرآني معاني ثورية لمفهوم الألوهية، ومغزى الإنسانية كانت طمست تحت وطأة تراث الاستبداد والقهر والخرافة». ثم يتطرق المؤلف باقتدار واضح إلى فكر «الإخوان» المسلمين في الإطار العام للإسلام السياسي كله، وهو يرى «رغم أن حسن البنا رفض الحزبية واعتبر جماعته ليست حزباً إلا أنهم خاضوا تاريخياً في اللعبة الحزبية، وتحالفوا مع أحزاب ضد أخرى وترشحوا للانتخابات!» ولقد كان سيد قطب بعد ذلك منهجاً متطوراً، بدأ معتدلاً ثم انتقل إلى أعلى درجات التشدد الذي يصل إلى تكفير المجتمع. ويختتم المؤلف كتابه البديع والعميق في ذات الوقت بتحليل واضح للانتقال من الجدل الخطابي إلى لاهوت التحرير الإسلامي، وهنا يقرر صراحة «أن الخطاب الفكري العربي قد خضع لنزعة دفاعية واضحة لنحو قرنين كاملين كان خلالهما مهجوساً بالغرب وبالرغبة الدفينة في تزويق صورة تديننا الإسلامي في مواجهته؛ حيث تعين على فقهائنا ثم مفكرينا القيام بمهمة نفي العلاقة بين تخلفنا الحضاري وإيماننا الإسلامي، وهي قضية كبرى استغرقت بحوثاً مطولة».
إن كتاب صلاح سالم (جدل الدين والحداثة) هو أيقونة ترصع سماء الفكر المصري.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دبلوماسي وباحث وأديب ومفكر ومؤرخ وكاتب، يمتلك خبرة واسعة في المجالات السياسية والثقافية ألَّف 36 كتابًا تسلط الضوء على بعض القضايا مثل الإصلاح السياسي والفكري القضاء على كل أشكال التمييز ضد الأقليات، والوحدة العربية والتضامن

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"