مجلس النواب المصري

05:10 صباحا
قراءة 4 دقائق
عرفت مصر في الفترة الليبرالية من تاريخها الحديث (1919 1952) وضعاً سياسياً أقرب إلى "النظام البرلماني" من سواه، حيث كانت الأحزاب السياسية وفي مقدمتها "حزب الوفد" ذات تأثير في الساحة أكبر بكثير مما هي عليه الآن، فالنظام البرلماني يشترط لقيامه أن تكون هناك أحزاب سياسية قويّة تستطيع أن تنهض بالبرلمان الذي يقود مسيرة البلاد، ولقد عرفت مصر في تلك الفترة من تاريخها برلماناً ذا مجلسين هما "مجلس النواب" و"مجلس الشيوخ"، وعندما أعاد الرئيس السادات الأخذ بنظام المجلسين استبدل بمجلس "الشيوخ" مجلساً "للشورى" حتى جاء دستور 2013 فألغى "مجلس الشورى" بعد جدلٍ طويل لتعود البلاد إلى برلمان المجلس الواحد، وكانت حجة الكثير ممن اعترضوا على وجود "مجلس الشورى" هو أن الأخذ بنظام المجلسين يوائم ظروف "الدول المركبة" ومعظمها "فيدراليات" تحتاج إلى تمثيل مزودج بحيث يعبر أحد المجلسين عن المواطنين جميعاً بغير استثناء بينما يعبر الآخر عن "الولايات" أو الكيانات السياسية للدولة وفقاً لأوزانها النسبية، ولقد أدى قرار دمج المجلسين في مجلس واحد "للنواب" إلى ردود فعل متباينة خصوصاً على مستوى الأمانة العامة لمجلس الشعب السابق فضلاً عن موظفي الشورى الحاليين . وهنا نتقدم بملاحظاتٍ حول البرلمان القادم في ظل الظروف التي يمر بها الوطن المصري وأهمها:
* أولاً: يصعب التنبؤ تماماً"بهوية" المجلس القادم وكل من يدّعي غير ذلك هو واهم لا يعرف الشارع المصري، لذلك فإنني أندهش عندما أجد بعض الأصدقاء يتحدثون في ثقة عن "تركيبة" المجلس القادم وتوزيع حصص العضوية فيه بل والوصول إلى اختيار "رئيس المجلس" و"هيئة المكتب" و"رؤساء اللجان"! وهذا إفراطٌ في التوقعات وثقة زائدة بالوضع عمومًا، ولم أسمع في حياتي عن برلمانٍ تجري محاولات تشكيل قياداته قبل أن يتم انتخابهم بالفعل من قواعدهم الشعبية، وكأننا نضع "العربة" أمام "الحصان" وليس العكس وهو الوضع الطبيعي!
* ثانياً: إن الأحزاب السياسية المصرية ضعيفة للغاية وأتحدى من يستطيع أن يتذكر أسماء الثمانين حزباً أو يزيد على الساحة المصرية حتى إن معظمنا عندما يقال أمامه اسم حزبٍ لا يعرفه فإنه يتساءل عن بعض الشخصيات المهمة فيه لعله يتعرف من خلالها إلى هوية ذلك الحزب وتوجهاته، ولا أظن أن الأمر سيستمر كذلك، فمن المؤكد أن انتخابات مجلس النواب القادم سوف تكون اختباراً شاملاً للأحزاب السياسية القائمة بحيث تتم عملية "غربلة"، فكل حزبٍ لا يحصل على مقاعد في "البرلمان" قد يفقد مبرر وجوده، لأن الأصل في الحزب السياسي هو "السعي نحو السلطة" وإلا أصبح لا يتعدى دوره إحدى الهيئات الأهلية أو الجمعيات الخيرية، ولابد أن يفكر المصريون بجدية في تدعيم النظام الحزبي وتقوية هياكله التنظيمية وأدواره السياسية ومنشوراته الإعلامية .
* ثالثاً: إن الأصل في الحزب السياسي كما يعرّفه الفقيه الدستوري الفرنسي "موريس ديفرجيه" أنه "تجمعٌ يقوم على مبادئ معينة وأهداف مشتركة ويسعى للوصول إلى السلطة" ولذلك فإن الشرط الأخير هو فصل الخطاب في تعريف الأحزاب، وإذا كان الحزب ساعياً إلى السلطة بالضرورة فإن عليه أن يربي كوادر سياسية تصلح لمواصلة العطاء وديمومة الكيان السياسي للحزب لذلك قالوا إن الأحزاب السياسية هي مدارس لتربية الكوادر وإن كنت لا أرى ما يؤكد ذلك في بلادنا! وما زلت أتذكر حضوري لمؤتمر حزب "المحافظين" البريطاني في مدينة "بلاك بول" عام 1975 وكيف جرى في إحدى جلسات مؤتمر الحزب أن دفع المحافظون بالسيدة مارغريت تاتشر لتتقدم الصفوف وقد كانت وزيرة للتعليم لكي تتجه إلى زعامة الحزب بحكم التصعيد الذي تم لها، ونحن نعرف أن اسم "تاتشر" يناطح اسم "ونستون تشرشل" في التاريخ البريطاني الحديث كما أنها بطلة حرب "الفوكلاند"، حتى إن بعض استطلاعات الرأي تضعها سابقةً على "تشرشل" ذاته .
* رابعاً: لم تعرف مصر في تاريخها الحديث حزباً انبثق من الشارع المصري وعبر عن حركة الجماهير التلقائية في جمع التوقيعات لتفويض الوفد المصري في محادثاته مع الجانب البريطاني من أجل الجلاء، إلا ما أسميناه "حزب الوفد" بعد ذلك، وهو تعبيرٌ عن الليبرالية السياسية مع مسحةٍ علمانية ودورٍ وطني تاريخي في دعم العلاقة بين الأشقاء من المسلمين والمسيحيين في إطار "الجماعة الوطنية" المصرية، لذلك تصدى حزب الوفد لتدخلات القصر الملكي في الحياة السياسية وظل مصطفى النحاس بعد سعد زغلول قابضاً على مبادئ "الوفد"، كما ظل صامدًا حتى رحيله، كما يكفي أن نتذكر أن فؤاد سراج الدين سكرتير عام الوفد قد علم بحركة الضباط الأحرار قبل ثورتهم، ولم يبلغ الملك لأنه يمثل حلقة متينة في سلسلة رائعة كان فيها مكرم عبيد ومحمد صبري أبو علم وغيرهما من السكرتاريين العامين لذلك الحزب الذي يمثل وعاء الحركة الوطنية في فترة ما بين ثورتي سعد زغلول وجمال عبد الناصر .
* خامساً: إن الأخذ بالتنظيم السياسي الواحد بعد 1952 بدءًا من "هيئة التحرير" مرورًا "بالاتحاد القومي" و"الاتحاد الاشتراكي" ثم "حزب مصر" "فالحزب الوطني"، أقول إن تلك المسيرة الأحادية قد أثرت سلباً في روح التعددية في الشارع السياسي المصري وسلبته القدرة على الحوار الفاعل، وأدت إلى قصورٍ واضح في نوعية الكوادر الوطنية المشتغلة بالحياة السياسية، فالحوار غائب وفهم الآخر غير متوافر والحرص على المصلحة العامة يتراجع أمام الدوافع الشخصية!
. . إنني أريد أن أقول إن "مجلس النواب" القادم سوف يكون اختبارًا حقيقياً للتغييرات التي طرأت على الشخصية المصرية بعد ثورتين متتاليتين في يناير 2011 ويونيو ،2013 وما لم تتغير روح البرلمان وشخوصه وأفكاره، فإننا نكون أمام "إعادة استنساخ" للماضي بكل سلبياته، إننا نتطلع إلى مجلسٍ نيابي واعد وصاعد يضم من الكفاءات من يستطيعون تحويل الدستور الجديد إلى منظومة قانونية كاملة وتنقية النصوص من الشوائب القديمة، وطرح البدائل السياسية والفكرية أمام الشباب حتى يتقدموا بخطواتِ ثابتة نحو الغد الأفضل، كما أن ظهور "برلمان مصري" قوي سوف يعزز من قيمة هذه المرحلة من نضال الشعب المصري نحو غاياته وطموحاته رغم مشكلاته ومعاناته .


د .مصطفى الفقي

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دبلوماسي وباحث وأديب ومفكر ومؤرخ وكاتب، يمتلك خبرة واسعة في المجالات السياسية والثقافية ألَّف 36 كتابًا تسلط الضوء على بعض القضايا مثل الإصلاح السياسي والفكري القضاء على كل أشكال التمييز ضد الأقليات، والوحدة العربية والتضامن

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"