هولاند يستعد لمغادرة الإليزيه

04:32 صباحا
قراءة 4 دقائق
د. غسان العزي
في هذه الأيام ينهمك الرئيس فرانسوا هولاند، في توضيب أغراضه تمهيداً لمغادرة قصر الإليزيه الذي يقطنه منذ مايو/أيار 2012 تاريخ انتخابه رئيساً للجمهورية الفرنسية. والحق يقال إن فوزه في هذه الانتخابات لم يحصل وقتها بفضل إعجاب الفرنسيين بشخصيته ومكافأة له على مآثره بقدر ما كان انتقاماً من نيكولا ساركوزي الذي امتلأت ولايته، بين عامي 2007 و2012، بالأكاذيب والفضائح والإخفاقات.
اليوم، يتم انتخاب رئيس جديد للجمهورية الفرنسية المولودة في العام 1958. ففي العام 1969 استقال الجنرال ديجول من منصبه الرئاسي ليخلفه اليميني جورج بومبيدو، الذي توفي في العام 1974 قبل سنتين من انتهاء ولايته. وقد خلفه اليميني جيسكار ديستان، الذي لم يفلح في التجديد لولاية ثانية بسبب هزيمته في الانتخابات أمام الاشتراكي فرانسوا ميتران، في العام 1981. أكمل ميتران ولايتين كاملتين قبل أن يخلفه اليميني الديجولي جاك شيراك في العام 1995، ليكمل هذا الأخير ولايتين انتهيتا في العام 2007 (بدلاً من 2009) لأن، في عهده، تم تقصير ولاية الرئيس إلى خمس سنوات بدلاً من سبع. وحل ساركوزي محل شيراك في العام 2007 قبل أن يهزمه هولاند في العام 2012.
وهكذا فإن الرؤساء الذين سبقوا هولاند خرجوا من الإليزيه، إما بالاستقالة (ديجول) أو الوفاة (بومبيدو) أو بعد إكمال ولايتين كاملتين لا يسمح الدستور بالترشح بعدهما (ميتران)، وإما بسبب الهزيمة في الانتخابات بعد إكمال الولاية الأولى (ساركوزي). لكن هولاند خرج بطريقة جديدة من الحكم مختلفة عن كل سابقيه، هي بكل بساطة عدم الترشح لولاية ثانية. إنها سابقة وسببها ليس تعفف الرجل أو زهده في الحكم بل يقينه بأنه لن يفوز إذا ما قرر خوض المعركة الانتخابية توخياً لولاية ثانية.
لقد وصلت شعبية هولاند إلى مستويات سحيقة غير مسبوقة في تاريخ فرنسا، كذلك كانت حال رؤساء حكوماته. واللافت أن لا أحد من المرشحين للانتخابات هذه المرة تمنى دعم هولاند بل إنهم كانوا جميعاً يصلون حتى لا يحظوا بمثل هذا الدعم. كلهم غسلوا أيديهم من فترة حكمه، بمن فيهم المرشح الاشتراكي بنوا هامون، ومرشح الوسط إيمانويل ماكرون اللذان كانا وزيرين مقربين له في حكومته. هذا رغم أن ماكرون كان مستشاراً في القصر قبل أن يغدو وزيراً للاقتصاد، وبالتالي مساهماً أساسياً في السياسة الاقتصادية «الهولاندية» التي ما انفك ينتقدها خلال حملته الانتخابية، ويفاخر بأنه خرج من الحكومة طوعاً قبل أن يؤسس حركته الخاصة «إلى الإمام» التي خاض بها الانتخابات.
الوزيران المرشحان تكلما كثيراً عن المستقبل، واعتبرا أن هولاند صار من الماضي رغم أن الرجل كان لا يزال رئيساً للجمهورية، وكل منهما أنكر أنه كان متفقاً مع سياسات الرئيس، وكل منهما كان يصلي كي لا يعلن الرئيس تأييده له، فمثل هذا التأييد يتسبب في خسارة أصوات من الناخبين أكثر مما يساعد على كسب المزيد منها. لكن هولاند انتهى بإعلان تأييده لماكرون، الأمر الذي أفرح خصومه، لاسيما مرشح الجمهوريين فرانسوا فيون الذي كان يسميه «إيمانويل هولاند» ومارين لوبان التي ما انفكت تكرر معادلتها «ماكرون = هولاند»، كذلك جان لوك ميلانشون مرشح اليسار المتطرف الذي كان يحلم بمقارعة هولاند في الانتخابات بعد سنوات خمس قضاها في شن «حرب عصابات» على «اليسار الخائن» القابع في الإليزيه، بحسب قول أحد الصحفيين.
لقد تخلى عن هولاند جناحاه اليميني (ماكرون) واليساري (هامون) على السواء والسبب أنه طوال عهده بقي جالساً بين كرسيين، أي عاجزاً عن اتخاذ القرارات، وعندما كان يتخذها كانت تأتي ضعيفة مترددة أو جزئية منقوصة متلونة لا هي من اليمين، وليست من اليسار، وكان يتراجع عن الكثير منها في اللحظات الأخيرة. باختصار تميزت سنوات حكمه الخمس بالإخفاق، بحسب وصف حلفائه قبل مناوئيه.
ربما لم يكن الرجل مسؤولاً وحده عن الإخفاقات، فقبله أوصل ساركوزي فرنسا إلى الحضيض، وهذا ما يشرح هزيمته في الانتخابات التمهيدية لحزبه، حيث جاء في المركز الثالث بعد فيون وجوبيه. ويسجل على ساركوزي أنه بعد هزيمته أمام هولاند في العام 2012 اتخذ القرار بالخروج من الحياة السياسية، لكنه عاد إليها ليحاول مجدداً الترشح للانتخابات الرئاسية عن حزبه «الجمهوريين» والذي خذله في الانتخابات التمهيدية.
ويمكن القول إن فيون قضى على الحزب الديجولي بسبب إصراره على خوض الانتخابات رغم الفضائح التي أحاطت به وملاحقة القضاء له خلال الحملة الانتخابية. كما يمكن القول بأن هولاند قد «اغتال» الحزب الاشتراكي بسبب سياساته العقيمة فمُني المرشح الاشتراكي هامون بهزيمة غير مسبوقة في تاريخ الجمهورية، وتوجهت أصوات قادة الحزب، بمن فيهم هولاند نفسه ورئيس الوزراء السابق فالز، ووزراء كثيرون، إلى ماكرون.
رغم كل شيء لن يكون هولاند هدفاً للسهام والانتقادات بعد خروجه من الإليزيه وذهابه للعيش في بلدته كوريز متقاعداً منسياً، وذلك لسبب بسيط واحد على الأقل، هو أن أحداً لن يمتدح «إنجازاته» كي يستدعي ردوداً من المنتقدين.
التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دكتوراه دولة في العلوم السياسية وشغل استاذاً للعلاقات الدولية والعلوم السياسية في الجامعة اللبنانية ومشرفاً على اطروحات الدكتوراه ايضاً .. أستاذ زائر في جامعات عربية وفرنسية.. صاحب مؤلفات ودراسات في الشؤون الدولية باللغتين العربية والفرنسية.

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"