من التخطيط إلى التفكير الاستراتيجي

02:54 صباحا
قراءة 4 دقائق
د. إدريس لكريني

تحيل الاستراتيجية إلى منهج وأسلوب متطوّر، يؤطر العمل ويعقلنه، من خلال رسم الخطط المنفتحة على المستقبل، والتوقّع المحسوب.

أضحى التدبير في عالم اليوم علماً وفنّاً، سواء بالنسبة للقطاعات الحكومية أو الخاصة، وطنياً ودولياً، يتطلب استحضار الأولويات اليومية كما المستقبلية، وهو ما يسمح بتجاوز المقاربات التقليدية التي تعتمد سبلاً متجاوزة تتأسّس على المركزية المفرطة وقصر النظر في بلورة الأهداف، وعدم الاعتراف بالأخطاء، والتركيز على المحيط الداخلي، وهي المقاربات التي تأكّد عدم نجاعتها مع التطورات التي شهدها العالم على مختلف الواجهات.

إن كسب رهان تحقيق التنمية المستدامة، بما تحيل إليه من تحقيق لحاجات اليوم، دون الإضرار بمتطلبات الأجيال القادمة، يقتضي استحضار البعد الاستراتيجي وما يتصل به من تخطيط وتوقّع ويقظة.

تحيل الاستراتيجية إلى منهج وأسلوب متطوّر، يؤطر العمل ويعقلنه، من خلال رسم الخطط المنفتحة على المستقبل، والتوقّع المحسوب، كسبيل لتحقيق الأهداف المرجوة في مختلف المجالات السياسية والاقتصادية والإدارية والعسكرية.

يسمح التخطيط الاستراتيجي كأسلوب يتجاوز المقاربات التقليدية في التدبير، إلى كسب رهانات التنافسية في إطار من الانفتاح والتشاركية، وإعطاء المؤسّسة نفساً دينامياً وتفاعلياً مع محيطها، مع التقليل من حدّة المخاطر، سواء كانت تقنية أو مالية أو بيئية. فهو عملية تتمّ عبر تنسيق الجهود والإمكانات والموارد البشرية والمالية والتقنية المتوافرة، مع الفرص المتاحة، لأجل تحقيق هدف أو مجموعة أهداف تمتدّ إلى المستقبل، ما يجعل منه عنصراً أساسياً ضمن مرتكزات الحكامة. وقد مهّد التخطيط الاستراتيجي إلى ظهور الإدارة الاستراتيجية التي تتبنّى هذا الخيار، كنمط أساسي يميّز قراراتها وممارساتها ضمن أسلوب عمل دائم.

يتمّ وضع الخطط الاستراتيجية عبر تقييم الأوضاع، من حيث تحديد الإمكانات والقدرات المتوافرة، ورصد نقاط الضعف، والفرص بسبل موضوعية، قبل طرح الأهداف المتوخّاة، أما تنفيذها فيتطلب إدارة احترافية ومنسجمة، تستحضر عناصر التخطيط والتنظيم والرّقابة والتقييم.

نبّه الكثير من الباحثين والخبراء، إلى أن كسب رهانات التخطيط والإدارة الاستراتيجيّين، لا يمكن أن يتأتّى بصورة متطورة ومقنعة، دون المرور عبر إرساء التفكير الاستراتيجي.

ينبني هذا التفكير على ممارسات عقلية منهجية تأمّلية، تستحضر المستقبل عند تقديم أجوبة بصدد قضايا وإشكالات مختلفة، في إطار من الشمولية والتكامل والإقناع.. إنه ممارسة للتأمّل العميق الذي يقوم على الإبداع، والرّؤية الاستشرافية المتّصلة بالمستقبل بكل رهاناته وتحدّياته، بصورة تجعل الأداء في مستوى الانتظارات والتحدّيات.

برزت الإرهاصات الأولى للتفكير الاستراتيجي على يد الفيلسوف والخبير والجنرال العسكري الصيني «سون تزو» خلال القرن الخامس قبل الميلاد من خلال مقالاته العسكرية الواردة حول فن الحرب، قبل أن يتطور التنظير في هذا الخصوص مع اجتهادات المفكر الإنجليزي «هنري لويد» والمنظر العسكري المعروف «كارل فون كلاوزفيتز»، خلال القرن التاسع عشر، بهدف رسم خطط تدعم حسم المعارك الحربية في الميدان، وإسهامات الجنرال «أندري بوفر» الذي حاول على امتداد القرن الماضي إخراج المفهوم من طابعه العسكري لينفتح على عدد من المجالات المدنية الأخرى، قبل أن يتطوّر الأمر في الوقت الراهن، مع ظهور مراكز ومؤسسات متخصّصة، واجتهادات فكرية، ومع تطوّر المناهج العلمية، لتقتحم عدداً من القطاعات الخاصة والعمومية، سعيا لكسب معارك بيئية وتنموية واقتصادية وسياسية واجتماعية وعلمية، ولمواكبة المتغيرات والتحولات الكبرى التي شهدتها المجتمعات، والعالم بشكل عام.

إن التفكير الاستراتيجي، باعتباره أحد العوامل المحفّزة على الاكتشاف وأخذ زمام المغامرة المحسوبة، وعلى الإبداع، والاجتهاد وتحقيق التميّز فرضه تعقّد المشاكل والقضايا والأزمات في عالم اليوم، والتي تقتضي إرساء حلول ومقاربات مستدامة وناجعة، فهو تفكير يستحضر معطيات ومؤشرات الحاضر بغية التنبؤ بالمتغيرات المستقبلية من جهة، والاستعداد الكافي لمختلف الإشكالات والاحتمالات بكثير من الجاهزية والثّقة في النفس من جهة أخرى.

وعياً بأهميته، واقتناعا بانعكاساته الإيجابية على عملية التخطيط، استأثر التفكير الاستراتيجي باهتمام كبير في أوساط العديد من الخبراء والباحثين، حيث برزت مجموعة من الكتابات والاجتهادات في هذا الخصوص، كما أصبح الكثير من الدول والمؤسسات الحكومية والخاصة تتبنّاه وتوليه أهمّية قصوى، لكونه يمثّل الأساس الفكري والعلمي لكلّ نشاط بشري منظم ومستدام، والعنصر الأساسي والمركزي في إرساء تخطيط استراتيجي منفتح وناجع، ولأنه ينحو إلى تطوير وتجويد الأداء، ويدعم التنافسية والانفتاح على المحيط المتغير للمنظمات، كما يتيح طرح العديد من الخيارات اللازمة لاتخاذ القرارات المناسبة.

إن كسب رهان التنمية الإنسانية وتحقيق التطوّر والرفاه داخل المجتمعات ليس أمراً من قبيل الصّدف، بل هو نتاج مجموعة من الخطوات الحثيثة والجهود المحسوبة، التي يستأثر فيها الانفتاح واستحضار البعد الاستراتيجي بمكانة متميزة.

تتطلّب ممارسة التفكير الاستراتيجي، الاقتناع بداية بأهمية ونجاعة هذا الخيار، إلى جانب تطوير الكفاءات بالانفتاح على المستجدات العلمية والنظرية، والتسلح بالعلم والمعرفة، واستحضار التجارب الدولية الرائدة في هذا الخصوص.

أمام التعقيدات والإشكالات التي باتت تواجه صانعي القرار وطنياً ودولياً، أضحى ترسيخ التفكير الاستراتيجي في هذا الشأن أمراً ضرورياً لكسب رهانات الجودة والتّنافسية، وهو ما تؤكّده التوجّهات العالمية المتزايدة نحو هذا الخيار الذي ينحو إلى مواجهة الأزمات والمشكلات المطروحة والمحتملة بصورة استباقية، فعالة ومستدامة، عبر رسم برامج مستقبلية، وإرساء أنماط تنظيمية حديثة ومتطوّرة.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

​باحث أكاديمي من المغرب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"