معركة الفلوجة.. اضطراب وفوضى أهلية

04:24 صباحا
قراءة 3 دقائق
أصبحت مدينة الفلوجة في ضواحي العاصمة العراقية بغداد رمزاً للاضطراب السياسي والاجتماعي في عراق ما بعد صدام حسين. وبطبيعة الحال فإن الموصل في شمالي البلاد ذات موضع مأساوي خاص بعد أن جعل منها تنظيم «داعش» الإرهابي عاصمة مزعومة له في بلاد الرافدين، وأذاق أهلها من مختلف الشرائح والأطياف والطوائف صنوفاً لا تحصى من الويلات. أما الفلوجة المدينة المُهملة خدماتياً فقد استغلها الحكم السابق كخزان بشري لإمداده بالجنود والمجندين، من دون أن تلقى العناية الاقتصادية والتنموية، وقد شهدت المدينة نشاطات تحسب في إطار المقاومة ضد الوجود الأمريكي العسكري لبضع سنوات، قبل أن تتسلل إليها عناصر وميليشيات إرهابية جعلت من أبناء المدينة والنازحين إليها رهائن، في أيدي هؤلاء. وقد حاولت السلطات استعادة المدينة على مدى سنوات، إلا أن هذه المحاولات قلما نجحت وذلك نتيجة سقوط أعداد كبيرة من المدنيين في كل مرة. ثم جاءت سيطرة «داعش» على المدينة لكي تتوّج المسار الانحداري المأساوي للفلوجة. ومُجدداً وقع الأهالي في حالة أشبه بالأسر، إن لم يكن أسوا. وأسهم الفقر والبطالة وتردّي الخدمات كانقطاع المياه والكهرباء في جذب شبان إلى الالتحاق بميليشيات سلفية لتأمين الحد الأدنى من موارد العيش.
والآن ومنذ أسابيع فإن ثمة حملة إعلامية تبشر بتحرير المدينة، وقد تم بالفعل السيطرة على حي أو اثنين منها. على أنه يلاحظ أن هذه الحملة يكتنفها اضطراب شديد. ليس فقط بسبب تعقيد الوضع «العسكري»، بل نتيجة تعقيد الوضع السياسي، فالسلطات تعجز وربما لا يرغب بعض مكوناتها في جعل المعركة وطنية بالفعل. فقد استغلت ميليشيات «الحشد الشعبي» الوضع وأخذت تسفر عن وجهها، وبدا الأمر كأنه هجوم طائفي على المدينة.اختلاط المسألة على هذا النحو يفيد «داعش» وخطابه الطائفي الشديد التطرف، أما الجمهور فقد بات مهدداً بمتطرفين طائفيين على الجانبين. وهو أمر أثار حفيظة الجانب الدولي الأمريكي الذي كان يستعد للمشاركة في المعركة وتطهير الفلوجة من «داعش» الإرهابي، وقد أدى هذا الانحراف إلى تعليق المشاركة الأمريكية في الحملة!
هكذا تتكرر الأخطاء مرة تلو الأخرى بصورة مضاعفة. من دون الاستفادة من التجارب السابقة. الخطأ الأصلي والمتكرر هو العجز عن إدارة معركة وطنية جامعة ضد الإرهاب، معركة تقودها قوات عراقية موثوقة وبقيادة عراقية اعتبارية ذات مصداقية، وتهدف إلى استئصال شأفة الإرهاب ومنع استنساخه وتكراره بصيغ أخرى، مع تمتين النسيج الوطني جنباً إلى جنب، والنأي عن استخدام رموز وشعارات طائفية، وعدم الانزلاق إلى ممارسات ذات طبيعة إرهابية تستهدف المدنيين والمرافق المدنية، وعدم السكوت عن تلك الممارسات متى حدثت وقد حدثت المرة تلو المرة، وبما يجعل من مثل هذه المعارك المأمولة مناسبة لإحياء الدولة الوطنية دولة كل العراقيين، وبما يضع حداً للاصطفاف والاحتراب الطائفي والمناطقي. ومن يقرأ جيداً التصريحات المنسوبة لمكتب المرجع السيستاني يلحظ مدى تحفظه على المسار الكارثي الذي تتخذه الأحداث!.

حين تجري المعركة بدون العشائر العراقية، وبدون الجيش العراقي إلا على نطاق رمزي، وبدون الأكراد الشركاء في الحكم، وبدون الدعم الدولي، فإنه يصعب الحديث عن معركة جامعة وناجعة، لتطهير الفلوجة من الإرهاب وذات أفق سياسي مقبول، ويغدو الأمر والحالة هذه وكأن الصراع يدور بين ميليشيات تتسابق في التطرف الطائفي وفي جعل المدنيين رهائن وأسرى من جهة ثم على رأس قائمة الأهداف من الجهة الأخرى.
يمتلك رئيس الحكومة حيدر العبادي خطاباً سياسياً جيداً على العموم، لكنه قلما ينجح للأسف في بناء تحالفات سياسية جادة عابرة للطوائف والمناطق، ونذكر أن معركته الأخيرة من أجل الإصلاح قد جوبهت بضغوط شرسة من خارج الحدود ومن السياسيين الذين يأتمرون بأمر الخارج، ما أدى إلى تراجعه رغم أن معركته قد حظيت بمباركة المرجع الدينية وأطراف سياسية واجتماعية وأخرى، وواقع الأمر أن محاولته التوفيق بين التدخلات الخارجية الفظة والمقتضيات الوطنية.. هذه المحاولة لن يقيض لها النجاح لأنها تجمع بين النقائض، ما يجعل المأساة تتوالى فصولاً وإلى إشعارٍ آخر.


محمود الريماوي
[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

كاتب ومعلق سياسي، قاص وروائي أردني-فلسطيني، يقيم في عمّان وقد أمضى شطرا من حياته في بيروت والكويت، مزاولاً مهنة الصحافة. ترجمت مختارات من قصصه إلى البلغارية والإيطالية والإنجليزية والفرنسية

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"