عندما يختلف المنتصرون

03:39 صباحا
قراءة 4 دقائق
عاصم عبد الخالق
من يؤمن بأن التاريخ يكتبه المنتصرون لم يجانبه الصواب، لأن المنتصر الذي فرض إرادته في ميدان القتال لن يعجز عن أن يفرض ما يشاء من روايات وتفسيرات لما حدث، ومن هذه الراويات تتشكل سجلات وكتب التاريخ. قد لا يكون في ذلك أي قدر من العدل، غير أن القاعدة الرومانية تقول إن القوة هي التي تخلق الحق وتحميه. ولكن ماذا يحدث عندما يختلف المنتصرون، ويتحول أصدقاء الأمس إلى أعداء اليوم؟ في هذه الحالة لابد أن تتعدد الروايات وينسب كل طرف الفضل في النصر إلى نفسه. وهذا ما يحدث حالياً بين حلفاء الماضي المنتصرين في الحرب العالمية الثانية التي يحتفلون هذا الأسبوع بذكرى مرور سبعين عاماً على انتهائها. 
روسيا كانت أحد الحلفاء الرئيسيين، مع الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا، ولعبت دوراً محورياً في دحر الجيوش النازية بعد أن دفعت ثمناً باهظاً يقدره المؤرخون بنحو 27 مليون قتيل من أبنائها. 
لا تعنينا كثيراً روايات المنتصرين في هذه الحرب التي لم يكن للعرب ناقة ولا جمل فيها، وإن كانوا قد دفعوا أيضاً ثمناً غالياً لها بفعل الترتيبات التي تلتها، ومنها تقاسم مناطق النفوذ في العالم بين القوى الكبرى، وصولاً إلى تسريع وتيرة إقامة “إسرائيل” بعد انتهاء الحرب.
الدروس الأهم التي يجب أن نتوقف عندها في هذه الذكرى كثيرة، منها أن تشرشل كان على حق عندما قال إنه لا يوجد في العالم أصدقاء دائمون ولا أعداء دائمون، ولكن مصالح دائمة. هذا تحقق بالفعل وتحول أعداء الماضي (ألمانيا وإيطاليا واليابان من جانب، والولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا من جانب آخر) إلى أصدقاء، بل شركاء حلف عسكري واحد هو “الناتو”. في المقابل أصبح حلفاء الأمس(روسيا من جانب والدول الغربية من جانب آخر) أعداء، أو على الأقل خصوماً ألدّاء اليوم. 
هذا التحول في خريطة التحالفات والعداوات واكبه تحول آخر مهم في آليات الصراع بين الكبار، فبدلاً من المواجهات المباشرة التي أصبحت مستحيلة بفعل توازن الرعب النووي، نشبت بين الجانبين حرب باردة طويلة وحروب بالوكالة لا حصر لها في أنحاء العالم. 
درس آخر لا يمكننا تجاهله، وهو أن العالم لم يصبح أكثر أمناً وسلاماً بعد هذه الحرب الكارثية. وإذا كانت الحرب قد ساهمت في صياغة منظومة قانونية ودبلوماسية دولية جديدة تمثلت في الأمم المتحدة وأجهزتها، وفي مقدمتها مجلس الأمن، فإن هذه المنظومة بدورها لم تستطع أن تمنع الحروب في العالم. 
قد يجادل البعض بأن النجاح الأكبر قد تحقق بعدم نشوب حرب عالمية جديدة. وقد يكون هذا صحيحاً إذا كان القياس هو عدم اندلاع حرب عالمية ثالثة، أو عدم استخدام أسلحة نووية مرة أخرى. غير أنه يظل مقياساً ناقصاً وغير واقعي للحكم على حالة الأمن والسلم العالميين. ذلك أنه منذ نهاية الحرب عام 1945 شهد العالم مئات من الحروب الإقليمية والأهلية والحروب بالوكالة وغيرها من أشكال العنف المسلح. 
ويبين موقع «الحروب في العالم اليوم» المتخصص في حصر ومتابعة الصراعات المسلحة في أرجاء المعمورة، أن هناك 65 دولة في العالم تشهد حروباً أو صراعات أهلية أو نزاعات مسلحة في الوقت الراهن، وأن الجماعات والتنظيمات المشاركة في هذه الصراعات يبلغ عددها 638 جماعة وتنظيماً. وتأتي إفريقيا في مقدمة المناطق الأكثر سخونة وتوتراً وفيها 27 دولة تشهد صراعات تخوضها 177 جماعة ومنظمة. تليها آسيا وفيها 16 دولة و145 جماعة متحاربة. ثم أوروبا بعدد 9 دول و74 جماعة.
أما الشرق الأوسط فيضم 8 دول و215 جماعة ومنظمة متحاربة. فضلاً عن صراعات الانفصال بأشكاله السلمية والمسلحة على السواء. وفي إفريقيا ست دول تشهد هذا النوع من الصراع، ومثلها في آسيا، مقابل 8 دول في أوروبا تسعى مناطق فيها للانفصال، واثنتين في الشرق الأوسط وفقاً للموقع الذي يعتبر «إسرائيل» دولة يحاول الفلسطينيون الانفصال عنها، إضافة إلى الأكراد في العراق. 
خلاصة ما يمكن قوله هنا هو أن العالم، بآلياته ومنظماته التي نشأت بعد الحرب العالمية الثانية، لم يكن أكثر أمناً طوال العقود السبعة التي انقضت منذ نهاية الحرب، وهذه ملاحظة أولى. أما الثانية فهي أن منظومة القانون الدولي والدبلوماسية العالمية مازالت عاجزة عن تحقيق أهدافها وبالتالي لم تقم بدورها على النحو الأمثل. والملاحظة الثالثة هي أن العالم اتحد قبل أكثر من سبعين عاماً ليواجه التطرف ممثلاً في النازية والفاشية ونجح في ذلك، غير أنه يبدو عاجزاً عن القيام بالإنجاز نفسه أمام أشكال أخرى من التطرف في الوقت الرهان. 
الملاحظة الرابعة، هي أن الأوضاع التي سبقت الحرب العالمية وتلك التي تلتها تتجدد الآن، سواء من حيث بروز التيارات اليمينية المتطرفة في أوروبا أو انقسام القارة أو تجدد نزاعاتها الإقليمية (أوكرانيا حالياً والبلقان من قبل) بما يهدد بمواجهات واسعة بين قوى كبرى. ثم هناك أيضاً ما يصفه البعض بحرب باردة بأشكال وأنماط جديدة. 
أخيراً، لابد من ملاحظة أن ملامح العالم أحادي القطبية أو القوة العظمى الواحدة توشك أن تتبدد، أو على الأقل هناك ما ينبئ بأن عالم المستقبل لن يظل كذلك مع بزوغ قوى إقليمية صاعدة مثل الصين، وتنامي روح القومية الروسية مجدداً. باختصار أنه عالم جديد يتشكل.
التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"