ماكرون في الإليزيه وأوروبا تتنفس الصعداء

06:17 صباحا
قراءة 4 دقائق
د. غسان العزي
منذ الأزمة المالية التي عصفت بأوروبا انطلاقاً من الولايات المتحدة، في العام ٢٠٠٨، توالت الأزمات على أنواعها في الاتحاد الأوروبي إلى درجة أنه بات موضع شكك بقدرته على الاستمرار. وقد فتحت الأزمة اليونانية نقاشاً حاداً بين مؤيدي مساعدة أثينا للخروج من محنتها ولو على حساب شعوب أوروبية تعيش هي الأخرى أزمات اقتصادية، وبين من يدعو لإخراج اليونان من منطقة اليورو. وتمكنت ألمانيا من فرض وجهة نظرها القائلة إن على الحكومة اليونانية أن تفرض إجراءات تقشفية قاسية في مقابل المساعدات الأوروبية والتي بلغت عشرات المليارات من اليورو، فنجحت في إنقاذ اليونان من إفلاس كان حتمياً ووشيكاً.
ثم جاءت أزمة النازحين الذين تدفّقوا إلى أوروبا لتفتح جرحاً نازفاً جديداً في التضامن الأوروبي، وتدفع دولاً أوروبية عدّة للخروج علناً عن توجيهات المفوضية الأوروبية، بشأن الكوتا التي فرضتها لتقاسم عبء استقبال النازحين واللاجئين.
في هذا الوقت الأوروبي العصيب حصلت مفاجأة تصويت الشعب البريطاني، في يونيو/ حزيران الماضي، لمصلحة الخروج من الاتحاد، فيما سمّي «البريكست» والذي أخذ، كالمرض المعدي، يهدد بالانتشار في دول أوروبية عدّة تعرف صعوداً متنامياً لليمين الشعبوي المتطرف، ومنها إيطاليا وفرنسا وهولندا على سبيل المثال.
في الداخل الأوروبي تحوّل هذا الاتحاد إلى كبش فداء المتذمرين من العولمة الاقتصادية «المتوحشة»، كما تصفها مارين لوبان، والمسؤول عن كل ما يعانيه الأوروبيون من مشاكل. فالإرهاب سببه الحدود المفتوحة التي يتسلل منها الإرهابيون، والبطالة سببها وجود أجانب يسرقون الوظائف من أبناء الوطن، والسيادة الوطنية تهددها القرارات الفوقية للسلطة فوق الوطنية الأوروبية، والطبقات المتوسطة ترزح تحت عبء التشريعات التي يفرضها بيروقراطيو بروكسل.. الخ.
إيمانويل ماكرون كان مع دعم الاتحاد وتطويره ودفعه إلى الأمام. حركة «إلى الأمام» رفعت شعار «الجمهورية إلى الأمام» و«أوروبا إلى الأمام» أيضاً. ووعد ماكرون بالعمل فور انتخابه على تحقيق الوعد بإطلاق نقاش أوروبي عام ومفاوضات من أجل ترسيخ وتدعيم وتقوية الاتحاد الأوروبي. وفي مناظرته مع لوبان أكد قناعاته الأوروبية الراسخة.
فور انتخابه، أعاد ماكرون التذكير بالتزاماته الأوروبية، وقبل استلامه السلطة، تحديداً في التاسع من مايو/ أيار الحالي، احتفل بمرور سبع وستين عاماً على انطلاقة المشروع الأوروبي على يد الفرنسي روبرت شومان والألماني كونراد أديناور في العام ١٩٥٠، وقال حرفياً «هذا المشروع الأوروبي غيّر حياتنا وأتى بالسلام الذي لم تعرفه أوروبا طوال قرون ماضية»، ووعد بأن يكافح «في السنين الخمس المقبلة كي تبقى أوروبا رمزاً للحرية والسلام والازدهار»، وأن «تكون جريئة في مجالات البيئة والمسائل الدولية، كي تستطيع الكلام مع الصين والولايات المتحدة وكل القوى العظمى». ولتحقيق ذلك وعد بالتعاون مع ألمانيا أول بلد سيزوره بعد اعتلائه السلطة.
المستشارة الألمانية ميركل، كانت من أكثر المحبذين لماكرون الذي استقبلته في برلين خلال حملته الانتخابية وأعلنت تأييدها له. وفور إعلان نتيجة الانتخابات في مساء السابع من مايو/ أيار، غرّد الناطق الرسمي باسمها على «تويتر» بأن «المستشارة ستكون سعيدة بالتعاون مع الرئيس الفرنسي الجديد»، وفي صبيحة اليوم التالي في مقر قيادة حزبها الديمقراطي-المسيحي قالت، إن فوز ماكرون أسعدها كثيراً، وإن «الصداقة بين ألمانيا وفرنسا هي حجر الأساس في السياسة الألمانية». والحقيقة أن المحافظين الألمان عموماً يعتبرون أن فوز ماكرون هو خبر عظيم. من بين كل المرشحين للرئاسة في فرنسا هو الأكثر وضوحاً من حيث تأييده للاتحاد الأوروبي، ولتقوية التعاون بين فرنسا وألمانيا، كما عبر النائب أندرياس جينج رئيس مجموعة الصداقة الفرنسية-الألمانية في البرلمان الألماني.
في صفوف اليسار الألماني، نجد الأصداء نفسها والتي عبر عنها توماس أوبيرمان، رئيس تكتل الاجتماعيين- الديمقراطيين في البرلمان بالقول: «فوز ماكرون هو الفرصة الأخيرة للثنائي الفرنسي - الألماني من أجل إنقاذ أوروبا»، ويجب علينا انتهاز هذه الفرصة، كما أكد زعيم هؤلاء مارتن تشولز بأن «فوز ماكرون لم ينقذ فرنسا فحسب بل أوروبا أيضاً».
وعود ماكرون بالتعاون مع ميركل، استغلتها منافسته لوبان لتتهمه بالخضوع لألمانيا: «على كل حال فإن امرأة ستقود فرنسا هي أنجيلا ميركل». وكان الرئيس ساركوزي قد تعرّض للاتهام نفسه وراج في عهده مصطلح «ميركوزي»، تعبيراً عن خضوعه للمستشارة. حتى هولاند اتهمته لوبان بأنه «نائب المستشارة لمقاطعة فرنسا». وسبب ذلك أن الازدهار الذي عرفته ألمانيا وسط الأزمة الاقتصادية التي عصفت بالعالم وأوروبا، وفرنسا تحديداً، وإزاء الحراك المفرط وغير المنتج لساركوزي ثم الاستكانة المفرطة هي الأخرى لهولاند، أعطوا الانطباع بأن فرنسا عاجزة عن التغيير على عكس جارتها ألمانيا التي نجحت في التكيف مع الأزمة العالمية، بل إنها استفادت منها.
ماكرون أعلن بأنه سيعمل إلى جانب المستشارة وليس «في مواجهتها»، كما يطالب البعض. والمعروف أن أوروبا لطالما سارت على عجلتين ألمانية اقتصادية وسياسية فرنسية، وبأن لهذا الثنائي الدور الأساسي في جعل أوروبا تتقدم إلى الأمام أو تتراجع إلى الوراء.
التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دكتوراه دولة في العلوم السياسية وشغل استاذاً للعلاقات الدولية والعلوم السياسية في الجامعة اللبنانية ومشرفاً على اطروحات الدكتوراه ايضاً .. أستاذ زائر في جامعات عربية وفرنسية.. صاحب مؤلفات ودراسات في الشؤون الدولية باللغتين العربية والفرنسية.

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"