فرصة أخرى ضائعة

03:28 صباحا
قراءة 4 دقائق
عاصم عبد الخالق

تاريخ القضية الفلسطينية هو تاريخ الفرص الضائعة، أي الفرص التي أضاعها العرب للحفاظ على حقوقهم واستردادها. السطور الآتية ليست بكائية جديدة على اللبن المسكوب، ولكنها تسجيل متواضع لفرصة أخرى يضيعها العرب حالياً في معركتهم الطويلة والمريرة مع الاحتلال «الإسرائيلي».
القصة تقدمها الحملة الدولية النشطة لمقاطعة «إسرائيل»، والتي تقودها مجموعة من الجمعيات الأهلية الفلسطينية، تساندها عشرات المنظمات والجماعات الدولية غير الحكومية، وأعداد كبيرة من الناشطين المتطوعين في أنحاء العالم. الحملة التي تكسب كل يوم متعاطفين جدداً تعرف باسم بي دي اس BDS وهو الاختصار للكلمات الإنجليزية الثلاثة التي تلخص أهدافها «مقاطعة، سحب الاستثمارات، معاقبة». والمقصود هنا هو مقاطعة «إسرائيل»، وسحب الاستثمارات الدولية الموجود فيها وخاصة في المستوطنات المقامة في الأراضي المحتلة، ثم فرض عقوبات عليها حتى تعترف بحقوق الشعب الفلسطيني. 
بدأت هذه الحملة غير الحكومية أنشطتها فعلياً عام 2005 انطلاقاً من فكرة ولدت في مؤتمر ديربن الذي عقد في جنوب إفريقيا عام 2001 ، وشارك فيه نحو 1500 منظمة غير حكومية، وصدرت عنه ما عرف باسم «وثيقة ديربن» التي دعت إلى عزل «إسرائيل» سياسياً. وكانت استضافة جنوب إفريقيا للمؤتمر أمراً مفهوماً وطبيعياً على ضوء تجربة الأغلبية السوداء هناك في مكافحة نظام الفصل العنصري باستخدام السلاح نفسه أي المقاطعة الدولية، وهو السلاح الذي أثبت فاعليته وجاذبيته للجماعات المدافعة عن حقوق الإنسان في الغرب.
الفكرة نفسها تتبناها حالياً حملة BDS وقد حققت نتائج جيدة للغاية قياساً على ضعف إمكاناتها، وعدم وجود أي مساندة عربية لها. وباسم حقوق الإنسان والدفاع عن القانون الدولي ، تشن الحملة حربها على «إسرائيل» في الأوساط الأكاديمية والعمالية والدينية والشبابية وغيرها في الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي. ومطالبها كلها معروفة وهي إنهاء الاحتلال، وهدم جدار الفصل العنصري الذي أقامته «إسرائيل» في الضفة، ومنح فلسطينيي 48 حقوقهم، وإعادة اللاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم وفقاً للقرارات الدولية.
وخلال السنوات التي عملت فيها حققت الحركة نجاحات مهمة، وأصبحت قضية المقاطعة التي كانت محرمة في الغرب مطروحة، بل تجاسر العديد من المنظمات والشركات والكيانات المختلفة ليس فقط في الدعوة لها بل المشاركة عملياً في مقاطعة «إسرائيل». آخر تلك الكيانات كان الاتحاد الوطني لمجالس طلبة بريطانيا الذي يضم 7 ملايين طالب، وقد انضم أخيراً إلى الحملة وقرر مقاطعة أي نشاط أكاديمي مع الكيان العنصري.
وهناك أكثر من 700 فنان ومثقف وأكاديمي غربي شاركوا قبل ذلك في التوقيع على بيان أعلنوا فيه مقاطعتهم ل«إسرائيل» وأنشطتها الفنية والأكاديمية. 
اللافت للنظر هنا هو طبيعة الاستجابة «الإسرائيلية» النشطة للتصدي للحملة وما يقابلها من فتور عربي بل تجاهل تام لها على المستوى الرسمي. في «إسرائيل» لم تستهن الحكومة بالجهد الفلسطيني المبذول، ولم تتجاهل النجاحات التي حققتها الحملة، بل اعتبرتها تهديداً وجودياً لا يقل خطراً عن التهديد النووي الإيراني أو تهديدات حماس. 
وقد تشكلت في سبيل التصدي لها أكثر من لجنة «إسرائيلية»، كما بدأت آلة الدعاية الصهيونية العملاقة في شن حرب ضارية على الحملة وتشويهها واتهامها بمعاداة السامية، بل وصفها بالإرهاب الذي يستهدف تقويض وجود «إسرائيل». كما هب أصدقاء «إسرائيل» في الولايات المتحدة وأوروبا واقترحوا العديد من التشريعات التي تجرّم الدعوة إلى مقاطعة «إسرائيل» أو المشاركة فيها. 
وكان الكنيست «الإسرائيلي» قد بدأ الخطوة الأولى على هذا الطريق مبكراً ، حينما أصدر قانون المقاطعة عام 2001 وصادقت عليه المحكمة العليا في إبريل/نيسان الماضي. وينص على ملاحقة الداعين للمقاطعة وتغريمهم. 
القلق «الإسرائيلي» هنا يرجع إلى سببين : الأول اقتصادي مفهوم وهو الخسائر التي يمكن أن تتكبدها الشركات العاملة في المستوطنات من جراء عدم تسويق منتجاتها الصناعية أو الزراعية في الاتحاد الأوروبي، أكبر شريك تجاري ل«إسرائيل». وهناك إحصاءات منشورة تتوقع مثلاً أن تبلغ الخسائر نحو ثمانية مليارات دولار سنوياً.
يضاعف من القلق «الإسرائيلي» أن 13 دولة أوروبية كانت قد وافقت في إبريل/نيسان 2013 على وضع علامات على منتجات المستوطنات المباعة في أسواقها لتنبيه المستهلكين إلا أنها أوقفت العمل بهذا الإجراء بناء على طلب أمريكي.
السبب الآخر للقلق «الإسرائيلي» سياسي ويتعلق بصورتها في العالم. وقد تتحمل «إسرائيل» أي خسائر اقتصادية، ولكن مسألة أن تظل متهمة وفي موضع الدفاع عن نفسها هو تطور يثير القلق، كما أنه يقوض الاستراتيجية الدعائية التي تبنتها طوال تاريخ الصراع العربي-«الإسرائيلي» ، حيث ادعت دائما أنها ضحية هجمات الآخرين، وأنها ضحية للإرهاب. الآن هي متهمة بانتهاك حقوق الإنسان وخرق القانون الدولي، وعليها أن تدافع عن نفسها. 
الوجه الآخر للمشكلة «الإسرائيلية» هنا ، هي أن المشاركين والمتجاوبين مع حملات المقاطعة عبارة عن منظمات غير حكومية ، وبالتالي لا تخضع لحسابات السياسيين والحكومات وهي حسابات تميل تلقائياً وتقليدياً للانحياز إلى«إسرائيل». الاختيار الذكي للحملة الفلسطينية هو أنها توجهت مباشرة إلى تلك المنظمات والهيئات الأهلية أي إلى الرأي العام وليس إلى الحكومات والجهات الرسمية. 
على الجانب الآخر يبدي العرب قدراً هائلاً، وإن كان متوقعاً، من البلادة في التعامل مع هذا التطور المهم والإيجابي، ولم تصدر عنهم أي بادرة لاستثمار التعاطف العالمي الذي تحظى به حملة المقاطعة، لم يقدموا أي دعم مادي أو معنوي أو سياسي للقائمين عليها. إذا لم تكن هذه هي أعراض إدمان الفشل والإصرار المرضي على إهدار الفرص.. فماذا تكون؟

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"