القصيدة فضاء حر

00:10 صباحا
قراءة 3 دقائق

لم تخلد بحور القصيدة العربية وموسيقاها بقرار رسمي حافظت عليه الأمة، إنها اللغة التي كشفت عن مفاتنها ودهشتها التي لا تنتهي، ومواضيعها التي لامست هموم الناس، واقتربت من تطلعاتهم وخاطبت عاطفتهم، وما بقي من مديح ما هو إلا شيء لا يذكر من الكنوز الثمينة التي لم تخضع إلا لسلطة الشاعر ورؤاه، وما يطال القصيدة العربية من كلام هو بمثابة شهادة على خلودها وبقائها، وينطبق عليها ما قاله المتنبي:

وإذا أتَتْكَ مَذمَّتِي مِنْ ناقصٍ

                        فهي الشهادةُ لي بأنّي كاملُ

ويأخذنا الحديث إلى ما قاله الشعراء من مديح في الحكام، فالحكام بشر، يعشقون ويحبون ويأسرهم الشعر ويقدمون له الدعم، والقصائد التي قيلت في هذا الغرض الشعري لا تمثل إلا نسبة ضئيلة من القصائد التي كتبها معظم الشعراء منذ عصر ما قبل الإسلام إلى يومنا هذا، فقصيدة مثل «قفا نبكِ» قصيدة وجدانية خلت من الغرض السياسي، ولذلك بقيت خالدة منذ ذلك التاريخ البعيد، فالتاريخ يردد اسم فاطمة التي كانت مدخلاً للحديث عن الشجاعة والاعتداد بالنفس:

أفاطمُ مهلاً بعضَ هذا التَّدَلُّلِ

                           وإن كنتِ قد أزمعتِ صرمي فأجملي

ولم يكن عنترة إلا عالَماً خاصّاً متمرّداً يبحث عن الحرية، وخَلُدَ باعتداده بشجاعته وعاطفته الجياشة التي شكلت ثنائية الحب والحرب:

ولقد ذكرتُكِ والرمَاحُ نَوَاهلٌ

                          مِنّي وبِيضُ الهِندِ تَقطُرُ مِن دَمي

وحين يذكر الصعاليك، تذكر قصائد خالدة لشعراء خرجوا من عباءة التبعية حسب وجهة نظرهم، ومع هذا خلد شعرهم مثل لامية العرب للشنفرى التي تخالف السائد لدى البعض عن أن الشعر خلد بالتقرب من السلطة:

وَفي الأَرضِ مَنأى لِلكَريمِ عَنِ الأَذى

                                   وَفيها لِمَن خافَ القِلى مُتَعَزَّلُ

أو كقول عروة بن الورد الذي كان همه توفير الزاد للآخرين:

أُقَسِّمُ جسمي في جسومٍ كثيرةٍ

                             وأحسو قراحَ الماءِ والماءُ باردُ

وقد كثر شعر المديح في العصر الأموي، ومنهم جرير، لكن القصائد الذاتية هي التي خلدته وتعد من كنوز الشعر مثل قوله:

إنَّ العيونَ التي في طرفِها حوَرٌ

                               قتلننا ثمَّ لمْ يحيينَ قتلانا

ولنعد إلى المتنبي الذي جاب المدن وعاش مع الحكام، إلا أنه لم يكن يبحث عن سلطة تخلِّدُ شعره، بل خلدته عرامته اللغوية ومهارته الشعرية ونرجسيته:

وسائلتي ما أنتَ في كلِّ بلدةٍ

                            وما تبتغي؟ ما أبتغي جلَّ أن يُسْمى

الشاعر إذن متمرد مجنون معتدّ بنفسه وقدرته، ولا يعني هذا خروجه عن الطاعة، بل هو جزء من المجتمع، وإن مدح فإنه يذكر أفضال من يبسطون الكف ويسهرون على أمن واستقرار المجتمع، وهو حق مشروع وحاجة خاصة لا توجه بوصلة الشعر وتتحكم فيه، وقد تتعامل السلطة معه بإيجابية وتسهم في حفظه، والشعرية العربية لم يطرأ عليها نظام التغيير والفناء؛ لأنها تستمد بقاءها من حاجة الناس، وحاجة العربي للشعر حاجته للغذاء والشراب والهواء، ولهذا استمر تدفق مائه، وتوالت العصور، ودار الشعراء المجيدون في فلكها كالأقمار التي لا غنى للناس عن منادمتها والسهر مع ضوئها، مثلما لا غنى للماء عن احتضان صورة الضوء، ليبقى الشاعر حراً كالنسر، محلِّقاً في الأفق حتى وإن عاش على صفحات ماء الحياة.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"