السياسة وكلمة شرف

02:51 صباحا
قراءة 4 دقائق
د. مصطفى الفقي

لفتت نظري عبارة ذكرها الرئيس السيسي، مؤخراً؛ عندما قال: «يبدو أننا نتعامل بشرف في وقت عز فيه الشرف»، وقد أثارت هذه العبارة لدي خواطر وتأملات ترتبط بالحياة السياسية وما فيها وما يتعلق بها، خصوصاً ما يتصل بالعلاقة بين السياسة والأخلاق؛ وهل يمكن أن نربط بين السياسة وما تتصف به من مناورة وتآمر وغدر بنقاء القيم الأخلاقية والفضائل الإنسانية؟
يبدو أن الأمر غير ذلك، فلم يكن (مكيافيلي) مغالياً؛ عندما فصل السياسة عن الأخلاق، ونصح الأمير بأن يدرك مغزى (أن الغاية تبرر الوسيلة)، وأن الأخلاق ليست هي معيار الممارسة السياسية، بما فيها من لزوجة وقدرة على الكذب، ورغبة في المناورة. لقد وعدوا أحمد عرابي الزعيم المصري عام 1881 بأن يردموا جزءاً من قناة السويس حتى لا تمر البوارج الأجنبية التي كانت تسعى لضرب حركة الفلاحين المصريين في الجيش المصري، عندما انتفضت ضد الخديوي توفيق وممارساته وخياناته، وصدق أحمد عرابي ذلك بنيته النظيفة، وقلبه الطيب فكانت النتيجة أن تآمر عليه الجميع، وانتهى الأمر بإجهاض حركته الوطنية، وإبعاده عن أرض الوطن، منفياً في جزيرة (سرنديب). وعلى السياسي أن يدرك - خصوصاً في عصرنا- أن الأخلاق ليست انعكاساً صحيحاً ولا تعبيراً دقيقاً عن الوعود السياسية المطلقة، والعبارات الاستهلاكية التي يقذف بها الزعماء، ثم ينكصون عنها، وينقضّون عليها. والذين يتعاملون في السياسة الدولية بشرف وأخلاق وقيم رفيعة ومبادئ نبيلة؛ عليهم أن يدركوا أن الدنيا قد تغيرت، وأن الأحوال قد تبدلت، وأن (كلمة الشرف) هي من قبيل الذكريات التي مضت وقد لا تعود، وهنا أسمح لنفسي بأن أطرح أمام القارئ أربع ملاحظات بالغة الأهمية:
*أولاً: إن السياسة هي الانتهازية بعينها، واغتنام الفرص؛ لتحقيق الأهداف بأساليب ملتوية وتعتنق المبدأ «المكيافيلي»، وهو أن «الغاية تبرر الوسيلة»؛ لذلك فإن تقاطعها مع الأخلاق ليس أمراً ممكناً في معظم الأحوال، فالسياسي يقدم ويؤخر، يخفي ويعلن، يتآمر ويستقيم، يلتوي في معظم الأحيان، ويكون واضحاً في بعضها، فالانفصال بين الأخلاق والسياسة حقيقة تاريخية أدركها الأقدمون، وتحدث عنها كل من عني بالعمل السياسي أو شارك فيه أو ارتبط به.
*ثانياً: إن الأخلاق وحقوق الإنسان مبادئ عامة تسعى الدول لتغطية أهدافها بمثل هذه الشعارات الرنانة؛ ولذلك فإن الفضائل والمبادئ تبدو محاولة دائمة؛ لتغطية الأهداف الحقيقية والغايات التي تسعى السياسة في التواء لتحقيقها، وما أكثر المتشدقين بحقوق الإنسان والمنتقدين لغيرهم بشأنها، بينما هم أولى الناس بالاهتمام بها ورعايتها. إن السياسة مزدوجة المعايير؛ بل ومتعددة الأوجه وفيها الكيل بمكيالين، وفيها القدرة على أن يقول المرء ما لا يؤمن به، وأن يفعل ما لم يقله، وأن يقول ما لن يفعله؛ لذلك فالخصومة بين الأخلاق والمبادئ في جانب وبين السياسة والتكتيك المرحلي في جانب آخر؛ تمثل هوة كبيرة لا يجب الانتقاص منها.
*ثالثاً: إن كلمة الشرف لا جدوى منها ما لم تكن موثقة في إطار قانوني واضح واعتراف دولي شامل؛ إذ لا يخفى علينا جميعاً أن كل ما لا يكون موثقاً يبدو هلامياً وكلاماً في الهواء. حتى أن الإسلام الحنيف يقول: (إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه) ومعنى ذلك أن التوثيق هو عنصر الإلزام الوحيد الذي يضع المسؤولية على عاتق من كتب ومن وقع، وليس من أدلى بأحاديث مرسلة أو كلمات فضفاضة؛ للخروج من مأزق أو الفكاك من مسؤولية. فلا يوجد في حياتنا أغلى من الشرف، والقسم به عظيم؛ لكن ليس في عصرنا هذا الذي تغيرت فيه الموازين وتبدلت الأوضاع، وأصبحت الكلمة رخيصة، ولا تحمل ذلك التأثير الضخم الذي كان لها من قبل. إننا نعيش عصراً كل شيء فيه قد جرى ابتذاله، وانهارت الثقة المتبادلة بين البشر، وأصبحنا أمام عالم يموج بالصراعات، ويحفل بالافتراءات، ويمتلئ بالأكاذيب.
*رابعاً: إن وعود الساسة وعبارات رجال الدولة تتأثر بالمواقف التي حولها، والظروف المحيطة بها والبيئة الحاضنة للحدث والمناخ العام؛ لذلك فإنها تبدو دائماً وكأنها حق يراد به باطل. فقد لا يستطيع المرء أن يمسك بتلابيب أطرافها خصوصاً وأن الحقيقة أحياناً حمالة أوجه، وقابلة لأكثر من تفسير فضلاً عن التأويلات المتعددة؛ لذلك وجدنا أن القسم بالرموز الدينية أو الكتب المقدسة ليس بالضرورة مانعاً جامعاً قاطعاً، فالأهواء تتحكم في كل شيء، وتصيب الناس في صميم أخلاقهم وكامل ضمائرهم، ولو فتشنا في مصداقية صاحب الوعد أو دافع القسم لوجدنا أن الأمر يختلف بالضرورة بين شخص وآخر، والفيصل في النهاية هو الكلمة المكتوبة أو الاتفاقية الموثقة أو البيان الرسمي الذي يلزم صاحبه بكل الصدق، ويجعل مصداقية دولته في كفة الميزان.
هذه خواطر ساقتها كلمة الرئيس السيسي التي مست لدينا الضمير الوطني والمصلحة العليا للبلاد، وأدركنا أن مبادئنا سوف تظل باقية وأفكارنا مستمرة؛ لكن الأطراف الأخرى قد لا تحمل نفس القدر من الاستعداد تحت مظلة الفضيلة، ولا نفس الدافع الشريف تحت مظلة الأخلاق.. حقاً إننا نتحدث بشرف في زمن عز فيه الشرف.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دبلوماسي وباحث وأديب ومفكر ومؤرخ وكاتب، يمتلك خبرة واسعة في المجالات السياسية والثقافية ألَّف 36 كتابًا تسلط الضوء على بعض القضايا مثل الإصلاح السياسي والفكري القضاء على كل أشكال التمييز ضد الأقليات، والوحدة العربية والتضامن

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"