يحدث في العراق

03:41 صباحا
قراءة 3 دقائق
محمود الريماوي

يبدو أن رئيس حكومة تصريف الأعمال العراقية حيدر العبادي سوف يدفع ثمن استقلاله في اتخاذ القرار بخصوص العقوبات الأمريكية الأخيرة على إيران. فقد تجند كل من نوري المالكي رئيس ائتلاف دولة القانون وهادي العامري رئيس تكتل الفتح، لسد الطريق أمام عودة العبادي إلى رئاسة الحكومة، رغم أنه الشخصية الأكثر نزوعاً إلى الوفاق الداخلي، والوفاق مع الخارج.
العبادي كان قد صرح بأن حكومته لا تؤيد مبدأ العقوبات، ولا تقف مع العقوبات الأخيرة على إيران، لكنها تجد نفسها لمقتضيات سياسية مضطرة للتعامل معها. هذا الموقف أغضب طهران التي كانت تنتظر موقفاً مطابقاً لمواقفها وليس أقل من ذلك. وبوصوله مجدداً إلى بغداد قبل أيام فقد استأنف قائد فيلق القدس الإيراني قاسم سليماني دوره في تحديد شكل الحكومة العراقية ومن يترأسها، وقد جرى بلورة اتجاه يدعو لتسمية فالح الفياض من تكتل العبادي «النصر» لرئاسة الحكومة العتيدة، وبهذا يكفل التيار «الإيراني» ممثلاً على الخصوص بالعامري والمالكي، إبعاد العبادي من جهة، ورعاية انشقاق داخل كتلته من جهة ثانية.
ويصطدم هذا التوجه بتمسك تيار مقتدى الصدر وتيار الحكمة بزعامة عمار الحكيم، وتيار إياد علاوي «العراقية» بترشيح العبادي، فيما يعمل كل من تيار العامري والمالكي على جذب القوى السنية والحزبين الكرديين الرئيسيين، إلى موقفهما بترضيات تتعلق بمقاعد وزارية وبمناصب نائب رئيس الجمهورية ( أكثر من نائب رئيس).
وفي بلد مثل العراق فإن الصراعات السياسية ليست محض سياسية، فالميليشيات جاهزة لترجيح الكفة وبوسائل ليست سياسية بالضرورة. فيما يلعب المال السياسي دوره أيضاً في تحديد وجهة الصراع وتقرير مصيره. والأمر لا يتعلق بالموقف من العقوبات حصراً، إذ يتعداه إلى فُرص انتزاع قرار وطني مستقل، بعيداً عن التدخلات الخارجية من أي مصدر. وقد لوحظ وصول مبعوث أمريكي إلى العاصمة العراقية هو بريت ماكورج بالتزامن مع وصول سليماني الدائم التردد على بغداد. ونُسب إلى مصادر أمريكية أن زيارة المبعوث ترمي لإبلاغ المسؤولين العراقيين بجدية الموقف الأمريكي من العقوبات المفروضة على إيران. ويتذرع مسؤولون إيرانيون ومعهم أطراف عراقية بأن الوجود الإيراني في العراق يهدف إلى منع التدخلات الأمريكية في هذا البلد. ولو كان هذا التذرع صحيحاً وجدياً، لكان قد حمل أصحابه على التمسك ولو لفظياً وإعلامياً بالسيادة العراقية وبحق العراقيين بقرارهم الوطني. لكن شيئاً من ذلك لا يحدث، والذي يحدث فعلاً هو الحديث عن روابط للعراق مع إيران تجُبّ كل روابط أخرى، أو تطغى عليها في أضعف الأحوال.
من هنا ينعقد إجماع الوطنيين العراقيين على تحرير العراق وإرادة شعبه وقواه السياسية والاجتماعية من أية تدخلات خارجية أياً كان مصدرها، وأيا كان لبوسها. من أجل استعادة كامل السيادة والاستقلال. والشعارات التي طالما رفعتها الاحتجاجات الشعبية المتواترة تعكس هذا الهاجس الوطني العميق، وكذلك الأمر بما يتعلق بتوجيهات المرجع آية الله السيستاني ذات الطابع النقدي، التي تشي بحق العراقيين في تقرير مصيرهم واختيار ممثليهم بحرية واحترام إرادة الشعب.
وبعد هذا العرض فإنه تجدر الإشارة إلى أن العبادي المستهدف سياسياً في هذه الآونة، ليس من المناوئين لإيران، بل إنه مع إقامة أوثق العلاقات معها ومنحها الأولوية، وكل «ذنبه» أنه يهدف إلى التمسك بحد أدنى من موجبات استقلال القرار العراقي، ووضع المصالح العليا للدولة والشعب فوق كل اعتبار، وهو ما يثير حفيظة الميليشيات وزعمائها، ممن يعتبرون أن التبعية لدولة أجنبية بعينها لا يمس السيادة أو الاستقلال بشيء، وأن التبعية هذه هي ضمانة الاستقلال والمنعة والاقتدار ( على من؟)!.
وأياً كان مآل الأمور، فمن الواضح أن تشكيل حكومة عراقية مصنوعة في عاصمة أخرى، يصطدم بالإضافة إلى معارضة قوى سياسية وحزبية، برفض شعبي واسع، بعد أن خبر العراقيون بصورة حسّية، نتائج التبعية وتداعياتها على حياتهم وأمنهم وكرامتهم وأرزاقهم. وكذلك على صورة العراق ومكانته، وحتى على هويته الوطنية والعربية وعلى الطموح إلى بناء دولة عصرية حديثة. ومن المفارقات الدالة أنه في الوقت الذي تشهد فيه مدن إيران موجة من الاحتجاجات الشعبية التي لا تنقطع، وفي وقت يجهر فيه بعض المسؤولين الإيرانيين بانتقادهم لسوء الأوضاع الداخلية وتفاقمها، والتحذير من سوء العاقبة على الجميع، فإن بعض السياسيين العراقيين لا يتوانون عن محاولة استعارة النموذج الإيراني لحكم بلادهم والسعي لاستنساخ هذا النموذج وفرضه على سواد العراقيين!.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

كاتب ومعلق سياسي، قاص وروائي أردني-فلسطيني، يقيم في عمّان وقد أمضى شطرا من حياته في بيروت والكويت، مزاولاً مهنة الصحافة. ترجمت مختارات من قصصه إلى البلغارية والإيطالية والإنجليزية والفرنسية

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"