التوتر بين بغداد وإربيل

05:19 صباحا
قراءة 4 دقائق

اشتداد التوتر في الأسابيع الأخيرة بين إقليم كردستان العراق، والحكومة المركزية في بغداد، يعكس جزءاً من الوضع السياسي الذي ما زال مضطرباً في عموم بلاد الرافدين . بدليل أنه في الوقت الذي ظل فيه الوئام يسود بين الجانبين بعد انهيار النظام العراقي السابق والاجتياح الأمريكي للبلد، فإن الوضع في عموم العراق ظلت تتناهبه المشكلات الأمنية والسياسية من كل جانب . في ظروف أخرى يتم الفصل بين السلطات وتكريس عمومية القانون وتداول السلطة، يمكن للمشاكل الناشئة وتلك المتوارثة بين الجانبين، أن تجد حلولاً لها تراعي حقوق ومصالح جميع الأطراف .

لقد ظهرت الحلقة الجديدة من التوتر بين الطرفين بعد أن قام رئيس الوزراء نوري المالكي بتوجيه اتهامات من العيار الثقيل لنائب رئيس الجمهورية طارق الهاشمي . حدث ذلك من دون إحاطة رئيس الدولة جلال طالباني بما يجري، وفي وقت كان فيه الهاشمي يجري مداولات مع الطالباني في أربيل . وقد تبع ذلك مطالبة المالكي لسلطات إقليم كردستان بتسليم الهاشمي لبغداد، وهو ما رفضت هذه السلطات الاستجابة له، بدعوى أن القضاء لم يصدر قراراً ضد الهاشمي وأن الأخير ما زال نائباً لرئيس الدولة .

تبعت ذلك تصريحات شديدة اللهجة لرئيس إقليم كردستان، ضد الانفراد بالسلطة وتشكيل جيش مليوني يتبع شخصاً واحداً هو المالكي الذي يجمع بين يديه مناصب رئيس الوزراء والقائد العام للقوات المسلحة ورئيس الاستخبارات ووزير الدفاع ووزير الداخلية . وأن العراق يتجه مجدداً إلى حكم الفرد، وأن البلد يذهب إلى الهاوية، وأن إقليم كردستان سوف يواصل تحالفه مع سائر القوى السياسية والاجتماعية العراقية (الشيعية والسنّية وغيرهما . .)، باستثناء ائتلاف دولة القانون الذي يقوده المالكي .

تفجرت بعدئذ مشكلة أخرى تتعلق بصادرات النفط المستخرج من حقول الشمال، فحسب اتفاقيات مبرمة مع الحكومة المركزية يتمتع الإقليم ب 17 في المئة من مجموع الواردات النفطية . سلطات الإقليم أعلنت أنها قد خفضت الانتاج إلى حوالي الثلث نظرا لعدم قيام الحكومة المركزية بتسليم سلطات الإقليم حصة الشركات المنتجة، بما يضطر حكومة الإقليم لدفع هذه المستحقات . بينما تتهم بغداد أربيل بأنها تبرم اتفاقيات مع شركات نفط من وراء ظهرها، وأنها تفعل ما هو أكثر من ذلك بالقيام بعمليات تهريب للنفط، وهو ما نفته بشدة سلطات الإقليم . بينما يشكو خبراء نفطيون في الأثناء من غياب قانون مفصل وملزم لاستخراج النفط والغاز وتصدير هذه الثروة، في بلد يملك ثالث احتياطي للنفط في العالم، وأن غياب هذا القانون هو السبب في تفجر الأزمات، إضافة إلى ضعف الثقة بين الجانبين . وفي ظروف انسداد الأزمة السياسية، فإن الطرفين العراقي والكردي تحيق بهما الخسائر معاً . تخفيض صادرات النفط وتقلص عوائده مثال صارخ على ذلك . هذا فضلاً عن التوترات السياسية والأمنية المستدامة، التي تحول دون استئناف الحياة العادية واستثمار كامل الموارد البشرية والطاقات الطبيعية .

المطالب التي رفعتها قوى سياسية عدة بعقد مؤتمر وطني شامل، تُطرح فيه مشكلات عموم العراق على مائدة البحث، لا تلقى استجابة تذكر من قبل الحكومة المركزية، وكذلك الأمر بالنسبة للدعوة لانتخابات نيابية مبكرة، علماً بأن الخيار الأخير تتجه اليه القوى السياسية عادة في البلدان الديمقراطية حين تشتد الخلافات الداخلية، وحين يصبح تمثيل السلطة التنفيذية ومجلس النواب للناخبين موضع تساؤل وتشكيك . وقد استنفدت القوى السياسية فرص الاستقواء بأطراف خارجية لكنها مع ذلك تواظب على ذلك . ومعلوم أن رئيس الوزراء يستثمر إلى أقصى حد التأييد الذي يحظى به من إيران وأمريكا، فهو الزعيم الوحيد في العراق الذي يحظى بهذا الدعم من قوتين كبريين متخاصمتين إحداهما إقليمية والأخرى دولية، وربما كان الزعيم السياسي الوحيد في العالم الذي يحظى بهذا الدعم من الجانبين معاً . ومع ذلك فإن هذا الدعم الهائل لم يحل مشاكل الرجل الداخلية . بينما الدعم الأمريكي الذي يتمتع به إقليم كردستان، لم يهدىء من درجة التوتر مع الجارة تركيا بالرغم من العلاقات الوثيقة بين واشنطن وأنقرة، وذلك على خلفية الموقف من حزب العمال الكردستاني . وقد اضطربت علاقات الإقليم مجدداً مع الجارتين سوريا وايران على وقع الأزمة السورية ولجوء نازحين أكراد من سوريا إلى مناطق كردستان . بل إن الموقف من الأزمة السورية أصبح عامل تباعد جديد بين أربيل وبغداد . والجولة التي قام بها مؤخراً طارق الهاشمي إلى الدوحة والرياض، وإعلانه العزم على العودة إلى أربيل، شاهد إضافي على هذا التباعد المتفاقم .

هكذا مع اضطراب العلاقات الداخلية ومع الاعلانات المتكررة عن مظاهر فساد بأرقام فلكية ومع موجة التفجيرات المتنقلة، وفي غياب إرادة سياسية لإقامة الدولة الوطنية على أساس المواطنة والقانون، والفصل بين السلطات وتداول السلطة عبر صناديق الاقتراع، واحتكار السلطة الشرعية (وليس افراد منها . .) للسلاح تحت مظلة القانون والدستور، فإن المشكلات تظل تتناسل في بلد الرشيد، وتأخذ بخناق بعضها بعضا وإلى اشعار آخر . والمشاكل مع إقليم كردستان هي امتداد ونتيجة للمشكلات الداخلية، التي لا يريد البعض وضع حلول لها ما دامت تمُس حساباته الفئوية وأولوياته الخاصة .

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

كاتب ومعلق سياسي، قاص وروائي أردني-فلسطيني، يقيم في عمّان وقد أمضى شطرا من حياته في بيروت والكويت، مزاولاً مهنة الصحافة. ترجمت مختارات من قصصه إلى البلغارية والإيطالية والإنجليزية والفرنسية

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"