تركيا في زمن الإسلام السياسي

02:14 صباحا
قراءة 4 دقائق
الحسين الزاوي

تعيش الدولة التركية منذ سنوات تحولات غريبة تعج بالتناقضات والمفارقات الصارخة، ولعل السمة الغالبة على هذه التحولات الفجائية هي أنها تسعى إلى إعادة النظر في مشروع المجتمع التركي الذي جرى تأسيسه منذ عقود خلت، وتكاد هذه التحولات أن تصيب التوازنات الكبرى للمجتمع في مقتل، متوسلة في ذلك استثمار ما وصف أنه نجاح اقتصادي لحكومة العدالة والتنمية، التي قطفت ثمار التحديث الصناعي والعصرنة المجتمعية التي وضعت أسسها الثورة الكمالية، لتعمل في الأخير على محاولة توظيف نجاحات الشعب التركي من أجل خدمة أهداف إيديولوجية تهدف إلى إعادة إرساء قواعد طغيان شرقي جديد، من خلال إفراز وضع سياسي مأزوم يدفع الشعب التركي، خلال الاستحقاقات الانتخابية المقبلة، إلى الاختيار ما بين أهون الشرّين، أو لنقل ما بين أمرين أحلاهما مر، إما العودة إلى سنوات الأزمات السياسية المزمنة أو القبول بحكم أردوغان الذي يسعى إلى تحويل السلطة في تركيا إلى ملك عضوض.

يرى مجمل المراقبين أن تركيا دخلت مرحلة لم يسبق لها معايشتها منذ تأسيس الجمهورية التركية الحديثة، نتيجة لإصرار أردوغان على التدخل في المفاوضات التي كانت تهدف إلى تشكيل حكومة ائتلافية، وبدا واضحاً أنه كان يسعى إلى القفز على كل الحلول السياسية المتاحة، ليصل في نهاية المطاف إلى الدعوة إلى إجراء انتخابات برلمانية مسبقة علّها تمكِّن حزب العدالة والتنمية من الحصول على الأغلبية المطلقة في البرلمان.
وتأتي الدعوة إلى تنظيم هذه الانتخابات المبكرة، في ظل وضع اقتصادي صعب وأجواء أمنية متوترة على الجبهة الداخلية مع الأكراد، وعلى الجبهة الخارجية مع سوريا بعد أن اضطرت تطورات الأحداث، حكومة أردوغان إلى إعلان الحرب ضد تنظيم «داعش الإرهابي» بعد سنوات من دعمه والتستر على نشاطاته التي حوّلت الأراضي التركية إلى أكبر منطقة لعبور المتطرفين في العالم.
ويذهب المتابعون للشأن التركي إلى أن الرئيس التركي قام بانقلاب مدني على الدستور بعد أن رفض تكليف زعيم المعارضة الاجتماعية - الديمقراطية بإجراء المشاورات الضرورية من أجل تشكيل الحكومة، واتسمت تصريحاته تجاه رموز المعارضة بكثير من الحدة، التي لا نجد مثيلاً لها إلا داخل الأنظمة الشمولية، رافضاً بذلك كل الدعوات التي تطالبه بالتزام الحيادية وفقاً لأحكام الدستور، مخاطباً المعارضة بقوله لن أكون الرئيس الذي تريدونه، ولعله أراد القول أريد أن أكون رئيس أتباعي في حزب العدالة والتنمية، الحزب الذي وصفه بقوله إنه «رمز للصدق».
عرفت السياسة التركية منذ وصول حزب العدالة والتنمية بزعامة أردوغان إلى الحكم تحولات دراماتيكية ناجمة عن الطبيعة الانفعالية لهذا الزعيم، حيث بدأت السياسة التركية الرسمية تسقط في المزايدات والإثارة الإعلامية، بعد عقود من الممارسة السياسية المتأنية والحكيمة التي سمحت للدولة التركية بتطوير مؤسساتها الوطنية في كنف الهدوء والسكينة بعيداً عن كل أشكال الجلبة السياسية، التي باتت تمثل إحدى السمات المحددة لهوية الجماعات المرتبطة بالإسلام السياسي؛ كانت تركيا الكمالية تقيم علاقات ودية ومتوازنة مع الأغلبية الساحقة من دول جوارها الإقليمي، أما الآن فقد أصبحت تعيش مرحلة عزلة دبلوماسية غير مسبوقة.
كما أنه ومنذ انتخاب أردوغان رئيساً للجمهورية، تقلصت بشكل كبير مساحات حرية الرأي والتعبير في تركيا، وتزايدت وتيرة الملاحقات القضائية للمعارضين ومنتقدي الرئيس، وشملت هذه الملاحقات فنانين وصحفيين ومواطنين بسطاء، وشن أردوغان حملة شعواء ضد خصومه من أتباع رجل الدين الموجود في المنفى فتح الله غولن، وسعى أيضا إلى تسييس قطاع العدالة، من خلال قيامه بحملة «تطهير» ضد خصومه في الشرطة والقضاء متهماً إياهم بالتآمر على الدولة ومؤسساتها، وإذا ما قدِّر له أن يستمر في السلطة لسنوات طوال فإنه سيقلب المشهد السياسي التركي رأساً على عقب، ونحسب أن تشييده لقصره الفخم الذي يشبه قصور السلاطين، ليس سوى مجرد حلقة بسيطة من حلقات جنون العظمة.
يذكر الجميع أن نجاحات حزب العدالة والتنمية بدأت في البداية من خلال اعتماد استراتيجية تهدف إلى تحقيق وفاق وطني مع كل مكونات الشعب التركي وخاصة المكوِّنين الكردي والعلوي، واستطاع هذا الحزب أن يقنع المقاتلين الأكراد بالتخلي عن الكفاح المسلح وصولاً إلى إبرام اتفاق سلام مع حزب العمل الكردستاني سنة 2013؛ ويبدو أن إخفاقات هذا الحزب وتراجع نفوذه السياسي ستكون أيضاً عبر البوابة الكردية، وبخاصة بعد إقدام الجيش التركي مؤخراً على قصف مواقع حزب العمال في شمال العراق، وقد أخطأ أردوغان عندما تعامل مع الأكراد بوصفهم أتباعاً وليس من منطلق كونهم شركاء كاملي الحقوق في الوطن التركي، وبالتالي فمن غير المستبعد أن تتكسّر أحلامه على صخرة القضية الكردية الشائكة.
يمكننا أن نتساءل في السياق نفسه عمّا إذا كان التحاق تركيا بالتحالف الدولي لمكافحة تنظيم «داعش» هو مجرد غطاء من أجل تشديد الخناق على المتمردين الأكراد في تركيا من جهة، والعمل على وقف وتيرة الانتصارات الكردية ضد «داعش» في سوريا من جهة أخرى؟ نستطيع أن نزعم - في هذا المقام - أن أغلبية المراقبين يذهبون إلى التشكيك في نوايا القيادة التركية الحالية تجاه الحرب ضد الإرهاب، كونها كانت تردّد باستمرار أن محاربة تنظيم «الدولة» لا يمثل أولوية بالنسبة لها، قياساً على الأولوية التي يمثلها القضاء على نظام الرئيس السوري بشار الأسد.
من الواضح أن نظام رجب طيب أردوغان لا يخفي دعمه لجماعات الإسلام السياسي وفي مقدمها التنظيم العالمي للإخوان المسلمين، وهو مستعد لمعاداة كل دول المنطقة من أجل نشر الفكر الإخواني، وقد يصل الغرور وحب السلطة بأردوغان إلى حد التضحية بالمكاسب التي حققتها الدولة التركية، لأن أحلام اليقظة التي تداعب مخيلته تجعله يتوهم أنه بالإمكان إعادة بناء دولة تركية عظمى وفق نموذج «حريم السلطان» البائد.
وعليه، فإن الإصرار على إدخال تركيا في معترك الإسلام السياسي في لحظة تاريخية فارقة، قدّم فيها الشعب التركي الكثير من التضحيات من أجل بناء دولة عصرية تؤمن بقيم العدل والمساواة وبقيم المواطنة الكونية؛ سيؤدي لا محالة إلى تداخل عجيب في أزمنة السياسية التركية: زمان السلاطين والرعايا والقهر باسم الدين، وزمن الديمقراطية ودولة القانون والعقد المجتمعي.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

أستاذ الفلسفة في جامعة وهران الجزائرية، باحث ومترجم ومهتم بالشأن السياسي، له العديد من الأبحاث المنشورة في المجلات والدوريات الفكرية، ويمتلك مؤلفات شخصية فضلا عن مساهمته في تأليف العديد من الكتب الجماعية الصادرة في الجزائر ومصر ولبنان

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"