صور ومفردات بلا حدود

00:10 صباحا
قراءة 3 دقائق

محمد عبدالله البريكي

للشعر العربي حيويته وتدفقه في كل مجالات الحياة، وهو بهذا الزخم اكتسب خاصية التواصل الجمالي، غير أن تنوع الأساليب الشعرية في هذا العصر أعطاه أبعاداً أخرى نظراً لما يحفل به من صورٍ متنوعةٍ ومفرداتٍ ثريّةٍ حققت قيمته الجمالية في الحياة اليومية، ولأن الشعر يمثّل ذروة البلاغة بعد القرآن الكريم والحديث النبوي، فإن الكثير من الشعراء استطاعوا أن يحلّقوا بإبداعاتهم الشعرية من خلال تجريب أنماطٍ مختلفة، وهو ما جعل الشعر في هذه المرحلة متعدد الأنماط والأساليب.

على صعيد الصورة الشعرية يمكن القول: إن لكل زمانٍ صُوَرَهُ الشعرية التي تتشكل وفق الزمن وحركته، فالشاعر الجاهلي امرؤ القيس حين يقول: «وليلٍ كموجِ البحرِ أرخى سدولَهُ/ عليَّ بأنواعِ الهمومِ ليبتلي» فالصورة هنا لها دلالاتها وقدرتها على التعبير عن حال الشعر وما يمر به من همومٍ وآلام. وتأتي الصورة معبرة عن الشوق والعاطفة في أبهى صورها، فهذا مجنون بني عامر قيس بن الملوح يقول: «لقد ثبتت في القلبِ منكِ محبّةٌ/ كما ثبتت في الراحتينِ الأصابعُ. وأنتِ التي صيّرتِ جسمي زجاجةً/ تنمُّ على ما تحتويهِ الأضالعُ».

 ثم يأتي شاعرٌ آخر في العصر الأندلسي وهو الحصري القيرواني ليقول: «يا ليلُ، الصبُّ متى غَدُهُ/ أقِيامُ الساعةِ موعِدُهُ» وهو كما نعلم شاعرٌ أعمى، لكنه استطاع أن يبدع في صورته التي بلورت حاله وما تضجُّ به نفسه من شكوى، ثم نرى شاعراً مثل بدر شاكر السياب يقول: «عيناكِ غابتا نخيلٍ ساعةَ السحرْ»، وهذه صورةٌ مركبةٌ دافقةٌ وفِّق الشاعر في رسمها على هذا النحو المبهر.

 وهكذا تتوالى الصورة الشعرية في كل زمانٍ معبرةً وساطعةً وجامعةً في الوقت نفسه. إذن الصورة الشعرية لها أثرٌ في بلورة حالات الشعراء ومستوياتهم العميقة في القدرة على أخذ اللقطة بمهارةٍ ودقة. أما المفردة الشعرية فهي حالة نادرة؛ كونها دليلاً على قدرة الشاعر على اكتساب اللغة، ومن ثم توظيف المفردة في النص الشعري، لذا نجد العديد من الشعراء بعد الانتهاء من كتابة القصيدة يكون شغلهم الشاغل هو المواءمة بين المفردة وحركة سريان البيت حتى لا يضل الشاعر المعنى، فأبو تمام يقول: «ولما دعاني البينُ ولّيتُ إذ دعا/ ولما دعاها طاوعَتْهُ ولبَّتِ. فلم أرَ مثلي كان أوفى بذمةٍ/ ولا مثلها لم ترعَ عهدي وذمّتي»، فقد استخدم الشاعر مفردة البين، وبنى عليها البيت ثم الذي تلاه. والمتنبي يقول: «يا أعدلَ الناسِ إلا في معاملتي/ فيكَ الخصامُ وأنتَ الخصمُ والحكمُ»، فقد جاء بالمفردة وضدها، وهذه قدرة لا تتأتى إلا لشاعرٍ فذٍّ متمكنٍ صاحب موهبةٍ طاغية، وهذا التنوع في أشكال المفردات فتح مجالاً رحباً لكي يبرز الشعر العربي في أبهى صورة.

 ويبقى أن نتحدث عن الأشكال الشعرية وتنوعها ما دمنا ذكرنا التنوع في الصورة والمفردة فقد تعددت أنماط الشعر، وأصبح لدينا مستويات عدة تعبر عن أشكال القصيدة العربية في هذا الزمن، بدءاً من القصيدة العمودية التي شهدت تطوراً منذ بدايتها حتى تمثلت في محاولات جريئة من شعراء العصر من أجل كتابتها بشكل مختلف وصور مبتكرة ومفردات عميقة، ثم قصيدة التفعيلة التي عبرت عن تحولات شعرية كبيرة، واستوعبت الأجيال الشعرية، وحققت مستويات عالية من البلاغة والانطلاق غير المحدود في عمليتي البناء والخيال، إلى تجربة كتابة النثر والسرد في فنونٍ ثقافية مختلفة، والذي أصبح له نسقه الخاص من حيث الصورة والمفردة والانطلاق نحو أغوارٍ بعيدةٍ تجعله قابلاً للتجريب بشكلٍ واسع.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"