مقام التاريخ

رؤية
13:32 مساء
قراءة دقيقتين

الاعتلاء بمقام التاريخ يتطلب اعترافاً بنواميسه ومكره، فالتاريخ أشبه ما يكون بالكائن الحي الذي يعرف التبدل والتحول، كما يعرف النماء والخبو، ذلك انه سفر في معارج المكان والزمان، ذلك السفر الذي لا يعرف الثبات إلا بوصفه أمراً عابراً فيما التحول هو سر أسرار التاريخ.

الذين عرفوا هذه البديهة وتمثلوها في رؤيتهم للوجود تمكنوا من انجاز النماء وترشيد الحياة، أما الذين يصرون على الإقامة في شروط الماضي دونما استجلاء لتلك المفردات التي تسعفنا إلى المستقبل، هذا النفر من الناس لا يجنون على التاريخ بل يجنون على أنفسهم لان التاريخ يسخر منهم ويهزأ.

نحن العرب من أكثر الأُمم مفارقة لقوانين التاريخ وضروراته لأننا ومنذ زمن بعيد مازلنا نعيد إنتاج المتاهات على قاعدة تسييد الاستبداد الظاهر أو المستتر، ولهذا السبب بالذات لا نستطيع أن نكون رقماً عالمياً يتناسب مع إمكاناتنا وتاريخنا الخاص والمديد.

وحتى عندما استوردنا النماذج القومية واليسارية من أوروبا لم نضع بالاعتبار أن هذه النماذج تتطلب أرضية ممهدة وشرطاً وجودياً مغايراً لزمن القبيلة والعشيرة، فكانت الإساءة مزدوجة.. الأولى ضد تاريخنا الخاص والثانية ضد النماذج التي تأثرنا بها واستوردناها كما نستورد السلع.

نحن والتاريخ نسير في خطين متوازيين.. لا نعرف التصالح مع الذات.. ولهذا لا يمكننا أن نتصالح مع التاريخ، ولهذا السبب أيضاً يزداد الشرخ بين المستقبل والواقع.. بين الثقافي والسياسي. وبين الخصوصية والعالمية.

عندما نستقرئ الحالة الأوروبية والغربية منها اصطلاحاً، نحاكمها ضمن نسق ثنائي يتقابل بصورة ميكانيكية.. كأن أوروبا تطورت خارج المؤثرات الفكرية المشرقية وتمهيداتها الكبرى عندما كان أسلافنا يتمثلون المشروع الفلسفي والفكري الإنساني الموصول بحضارات فارس والهند والصين ثم ينقلونه بكفاءة المُبدع المُساهم في أساس ذلك التراث.

عندما نتحدث عن العولمة نستعيد مفردات التعاميم المجانية التي كنا نقول بها في السبعينات عندما كنا نتحدث عن الغزو الثقافي من دون ملاحظة الوشائج الإنسانية الكبرى التي تجعل الفكر وأنساق الثقافة في تلاقح مستمر بالرغم من الخصوصيات وأهميتها.

هذه المسائل برمتها تستدعي نوعاً من الشجاعة المعرفية والإقدام المبادر باتجاه الماضي والمستقبل معاً حتى يكون حاضرنا قائماً في تضاعيف المشروع الإنساني للنماء والتطور وحتى نعتلي بمقام التاريخ من خلال احترام نواميسه ومرجعياته.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"