«التحطيب».. تاريخ من التقاليد والفروسية

فن حربي تحول إلى لعبة شعبية
05:44 صباحا
قراءة 4 دقائق
القاهرة: «الخليج»

تعد لعبة التحطيب المصرية، واحدة من أشهر الألعاب الشعبية التي يقبل عليها المصريون على اختلاف ثقافاتهم ومكانتهم الاجتماعية، وإن ظلت حكراً حتى اليوم على أبناء الجنوب في صعيد مصر، بعدما شهدت تراجعاً لافتاً على مدار العقود الخمسة الماضية في الوجه البحري.

ودفع ولع الصعيد بممارسة تلك اللعبة، والحفاظ عليها، محافظة الأقصر إلى تنظيم مهرجان سنوي، يدعى إليه «المحطبون» من مختلف المحافظات، لإبراز مهاراتهم في تلك اللعبة التي يرجع كثير من الباحثين أصولها إلى العصور الفرعونية القديمة، وهم يستدلون على ذلك بالعديد من النقوش التي وجدت محفورة على جدران معابد عدة، التي تصور مشاهد لجنود مصريين، يتبارزون بالعصي، ما يؤشر إلى أنها كانت بالأساس لعبة قتالية، تحولت مع مرور الوقت إلى واحدة من الألعاب الاستعراضية الشعبية، التي تعد القاسم المشترك في احتفالات اجتماعية ودينية عدة في صعيد مصر على وجه الخصوص.

تستند لعبة «التحطيب»، التي دخلت أخيراً ضمن قائمة التراث العالمي في اليونيسكو، على نحو كبير إلى رياضة الفروسية، ما يجعلها بحسب كثير من الباحثين تقترب كثيراً في مظهرها العام من عوالم المنافسات الرياضية، بل إن كثيراً من قرى الصعيد في مصر، ما زالت تجمع بين تلك اللعبة وركوب الخيل، فيما يعرف باحتفاليات «المرماح»، وفيها يتبارى المتنافسون بالعصي الطويلة، وهم على ظهور الخيل، وتكون الغلبة لمن يتمكن من إسقاط منافسه عن ظهر الحصان، وهي تشبه إلى حد كبير مبارزات الفرسان في العصور القديمة.
وتجمع حلقة التحطيب بين مختلف فنون القتال، بما فيها الخفة والرشاقة، بل والخداع والمكر أيضاً، ويحرص المتنافسون فيها على ألا يصيب أي مكروه أحدهم؛ إذ يكتفون بمجرد أن تلمس العصا جسد المنافس، وهو ما يتطلب مرونة ورشاقة وخفة كبيرة، لكن ذلك لا يمنع من احتمالية سقوط جرحى أو ربما قتلى في أحيانٍ نادرة، إذا ما تلقى أحد المنافسين ضربة قوية ربما تشج رأسه أو تكسر له ضلعاً، لكن القانون العرفي الساري إلى الآن في العديد من قرى الصعيد حتى اليوم، يعفي الفائز من أي مسؤولية، بل إنه يسقط عنه «دية الدم»، استناداً إلى أن المهزوم نزل إلى ساحة اللعب بكامل إرادته، فضلاً عن انتفاء القصد الجنائي في القتل، حسبما يقول القانونيون.

قواعد راسخة

وتستند لعبة التحطيب إلى قواعد راسخة، توارثتها الأجيال وحافظت عليها كتقليد راسخ، لا يمكن تجاوزه، وهي تبدأ بأن يلقي اللاعب التحية على الحضور الذين يلتفون في حلقة كبيرة لمشاهدة الراقصين، ثم تحية المنافس بالتلويح بالعصا عدة مرات، ثم الرقص على نغمات المزمار والرباب والطبل البلدي، وهي الموسيقى الشعبية التي دائماً ما تصاحب حلقات اللعب، قبل أن يطلق أحد المحكمين من كبار اللاعبين وأكثرهم خبرة إشارة البدء، وهي كلمة «ساه» إيذاناً ببدء اللعب، ويحق للمحكم وفق تقاليد عدد كبير من قرى محافظة قنا، أن يوقف اللعب إذا ما شعر بتفاوت كبير في مستوى أحد اللاعبين، حماية له وحفاظاً على كرامته أمام الجموع التي تلتف حول حلقة اللعب.

ويقول الحاج رضا خطاب، أحد كبار لاعبي التحطيب، إنه يستطيع أن يميز مهارة اللاعب أمامه، من شكل قبضة يده على العصا، التي تستلزم أن تكون قوية، حتى يستطيع اللاعب التحكم بالعصا والدوران بها، وتنفيذ جميع الحركات الصعبة، دون أن تفلت من يده، أو تتراخى قبضته عنها فيصيبه من ضربات المنافس، ما يؤذيه أو يفت من عزيمته.
ويحرص لاعبو التحطيب على النزول إلى حلبة اللعب بكامل زينتهم، التي تتكون دائماً من اللباس التقليدي في قرى الصعيد المصري، وهو الجلباب الفضفاض والعمامة على الرأس، والحذاء الأسود الخفيف الملمع بعناية فائقة. ويقول خطاب: «التحطيب في النهاية هو استعراض للقوة والمهارة، وللمكانة الاجتماعية أيضاً للاعب الذي يمثل دائماً قبيلته أمام المنافس، ومن ثم يجب عليه أن ينزل إلى حلبة اللعب في كامل الزينة التي توضح مكانة القبيلة».
ويشترط المحكمون في لعبة التحطيب ألا يكون بين المتبارين فيها أي خصومات أو عداءات ثأرية سابقة، حتى لا تتحول ملاعب التحطيب إلى ساحات للثأر أو تصفية الحسابات. ويوضح خطاب: «اللعبة بالأساس ليست سوى وسيلة للترويح عن النفس، وإشاعة البهجة؛ لذا فإنها تعد القاسم المشترك دائماً في احتفالات الصعيد الاجتماعية مثل حفلات العرس، والاحتفالات الدينية، ثم إن الضرب فيها ليس ضرباً حقيقياً، بل يكتفي كل لاعب بمحاولة ملامسة العصا لجسم الخصم، ودائماً ما نتدخل إذا ما اشتد وطيس اللعب بين طرفين، لنوقف الاستعراض قبل أن يتحول إلى عراك حقيقي، يمكن أن تكون له آثار وخيمة».

«العصا الغشيمة»

وتعد العصا هي العنصر الأساسي في رقصة التحطيب، وكان الراقصون يستخدمون في الماضي، بعض أنواع الشوم الغليظ، التي كان يطلق عليها في صعيد مصر «العصا الغشيمة» أو «شوم محلب»، وهي نوع من فروع الشجر الجاف، كانت تؤذي اللاعبين بصورة كبيرة، بل إنها في بعض الأوقات، أدت إلى وفاة بعضهم، قبل أن يُستبعد هذا النوع من العصي في اللعبة، واستبداله بعصي من الخيزران، يبلغ طول الواحدة منها نحو 180 سنتيمتراً.

والارتجال والتلقائية هما السمة السائدة في التحطيب المصري، الذي يتضمن مجموعة من القواعد حسب دراسة مهمة للباحث حسام محسب، تبدأ بالتحية، ثم الحركات الاستعراضية المعروفة في أوساط المحطبين ب«حركات الرش» ثم حركات فتح الباب إيذاناً ببدء اللعب، وانتهاء بغلق الباب قبل أن يغادر اللاعبان الحلقة، ليفسحا المجال للاعبين آخرين. يقول محسب: «الحركات الاستعراضية دائماً نسبية، فكثير من اللاعبين، يؤدونها بسرعة ليشرعوا فوراً في اللعب، فيما يفضل آخرون الإسهاب في الاستعراض لإمتاع الجمهور، خصوصاً في ليالي السمر المصاحبة لحفلات الزفاف، لأن التحطيب بالأساس لعبة ليس هدفها العنف، ولكنها للاستمتاع، تحترم فيها التقاليد، والكبير هو الذي يبدأ اللعب دائماً».

والحركات الاستعراضية هي الأصل في لعبة التحطيب، لأنها تؤكد مهارة وخفة اللاعب، واستحقاقه للفوز، وهي مجموعة الحركات التي يبدأ بها اللاعب مباراته، ليبرز قوته ويثير حماسته وحماس الجمهور، قبل أن يبدأ كل لاعب بضرب الآخر في الهواء، ليصد الآخر الضربة في الهواء أيضاً، قبل أن يشرع الاثنان في تنفيذ سلسلة من الحركات الالتحامية، التي تحدد في النهاية المنتصر والمهزوم، وهي عبارة عن عدة حركات يعرفها الممارسون لتلك اللعبة جيداً، وجميعها تحكمها مهارة اللاعب ومدى قدرته وسرعته وخفة حركته.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"