مسيحيو المشرق

04:38 صباحا
قراءة 4 دقائق

عائد من القاهرة، بعد مؤتمر فكري حول الحوار والعيش المشترك بين المسلمين والمسيحيين في الوطن العربي، شارك فيه رجال فكر وسياسة ودين ولاهوت.

جئت القاهرة، بعد غياب قصير، وفي ظني أن الفريق العربي الذي ينظم هذا المؤتمر سنوياً، وعلى مدى عقد ونصف العقد، بمقدوره أن يحسن تدبير الحوار، بما لا يحوِّل حساسيات الواقع المعاش إلى علامات خطر، إلا أنني فوجئت بمناخ مشحون بالتوتر والاحتقان، في داخل المؤتمر وفي خارجه، لا القبطي مرتاح، ولا المسلم مرتاح، ورغم عبورنا في حوارنا الفكري، ضفاف النيل، إلى السودان ولبنان والعراق والقدس المحتلة، نمعن التفكير في أوضاع مسيحيي المشرق هذه الأيام، إلا أننا بقينا مشدودين إلى العلاقات الاسلامية - القبطية، وما يسكنها من احتقان وتوتر، يؤثر سلباً في نسيج الوحدة الوطنية المصرية، ويعزز الشكوك والمخاوف المتبادلة.

استحضرنا في هذا اللقاء، حقيقة تاريخية، وهي أن بناة دائرة الحضارة العربية الإسلامية، هم مسلمون ومسيحيون، شيدوا معاً صرحها، في مختلف مقتضياتها وميادين علومها وفنونها ولغتها، وأن الوطن العربي لو هجره مسيحيوه العرب، سيصبح أقل ثراءً وحيوية في تنوع مصادر ثقافته ومعتقداته، وتركيبته الخلاقة المبدعة، وأن مظاهر الاقصاء أو الاستئصال، أو المواطنة الناقصة، التي قد تطال مسيحيين في أكثر من موقع في الوطن العربي، ستزيد من الأحمال والأثقال البائسة على اكتاف مجتمعاتنا، وستفتح مزيدًا من الأبواب الخطرة، أمام اليأس والعنف والتعصب والتذرر.

ومع احساس الفريق العربي للحوار الإسلامي المسيحي بدور التدخلات الخارجية، بما فيها الاحتلال، في ما يمكن أن يقع من توترات داخلية، فإنه لم يهوِّن من دور الظروف والعوامل الذاتية الداخلية، واعتبار أن معالجة الوضع الداخلي في كل قطر عربي، بجهود أبناء الوطن الواحد، يمثل شرطاً أساسياً للحيلولة دون الاختراق الخارجي، والذي يزيد الوضع تفاقماً، ويعزز الشكوك والهواجس.

وقد تراكمت لدى الفريق العربي، والذي أتشرف بعضويته كمؤسس، تجربة ثرية، من خلال الحوار المتبادل والعمل المشترك على مستوى المجتمع المدني وقطاعات الشباب والمرأة والبحث في التراث الإبراهيمي، وتعزيز الإيمان بأن الاختلاف الديني لا يُلغي حقيقة الانتماء الواحد للحضارة العربية الإسلامية، وقد حرصنا في كل حواراتنا، أن يكون الحوار، حوار الحياة بين مواطنين ينتمون إلى الجماعة الوطنية نفسها، مسترشدين بقيم تؤسس لمعاني التعارف والتنوع وكرامة الإنسان المطلقة، ولمبادئ الرحمة والمودة وعمارة الأرض ومحاربة الظلم والشرور.

لكن، ورغم هذه التجربة المتراكمة، فإن الفريق وقف مندهشاً أمام سرعة تدهور المناخ السائد في مجتمع العلاقات الإسلامية القبطية، ووجد أن الأجواء معبأة بأسباب تتعدد دواعيها، تمس واقع العيش المشترك، وتعمق الالتباس ما بين التدين الشعبي، والغلو المذموم، الذي يؤدي إلى العنف والتطرف والمخاوف.

الصورة تبدو خطرة، يصعب تحويل الأنظار عنها، أو تجاهل أسبابها أو إغفالها.. إنها ليست مجرد حالة نفسية سببها مناخ سائد في المنطقة، وإنما تتصل بحقائق واقعة على الأرض، لا يصح تجاهلها حتى لو كانت أساساتها واهية.

ولنتذكر بعضها، من أمثال: انحسار مساحات الاختلاط والتمازج، والتفاعل بين المسلمين والمسيحيين في بعض الدول العربية، وعلى درجات متفاوتة، وكيف أصاب هذا الانحسار المؤسسات النقابية والسياسية والتربوية والثقافية، في ظل وحدة وطنية مزعزعة، ولنتذكر أيضاً، ظاهرة تراجع ثقافة الحوار الهادئ والجاد، أمام تصاعد خطابات دينية سجالية وتجريحية، مثيرة للشكوك والمخاوف، وتفتقر إلى القواعد المعرفية الصحيحة، وفي ظل ارتفاع منسوب قمع الحريات، وأزمات معيشية مستفحلة، وضعف في قيم العدل المطلقة، وشيوع لغة الحوار المزدوجة، لغة للطائفة، وأخرى مختلفة للآخر.. الخ.

من ناحية أخرى، تبدو الإشكالية، رغم تشابكها وتنوع عناصرها، وكأنها واقعة بسبب وجود ديانتين، وننسى أنهما متجاورتان منذ أكثر من أربعة عشر قرناً. لكنها في حقيقة الأمر، تكمن في سوء إدارة هذا التنوع، على مختلف المستويات الرسمية والمجتمعية، وفي غياب ثقافة احترام الآخر المختلف، وتراجع قيم احترام القانون والمعايير العادلة، ما يدفع المواطن إلى اللجوء إلى خندق طائفته أو مذهبه أو قبيلته أو جماعته السياسية، باحثاً عن ملجأ آمن، وخدمات ومصالح شخصية، في ظل الإقصاء وغياب العدل ومبادئ المواطنة، وضعف الدولة ومشروعها الوطني.

ثلاثة مخاطر داهمة، تواجه اليوم أتباع المسيحية العربية (13 مليون مسيحي) وهي مخاطر الهجرة والتهجير القسري (القدس مثالاً)، ومخاطر الاستئصال ومخاطر المواطنة الناقصة، ولا داعي لذكر الاحصائيات الموضوعية المستقلة، التي تتحدث عن تفريغ المشرق من مسيحييه العرب (هجرة نصف مليون مسيحي عراقي)، وفي أرض الكنانة، تتعقد الأمور يوماً بعد يوم، حيث يسود مناخ بائس، أصاب حتى نخباً عقلانية، وأفرز مسلكيات وأفكاراً تتجافى مع روحية الأديان السمحة، ومع ما تعاهد به المواطنون، من عصمة الأنفس والأموال والأعراض ودور العبادة.

وانشغل بعض الناس، بغير الحقيقي مما يواجههم من أخطار ومشكلات ومعيشة قاسية.

في سياق العيش الواحد، نحتاج كنخب ومؤسسات ومنابر ووسائط اتصال وإعلام وتربويات، إلى إعمال معايير النزاهة الفكرية، والمصارحة، وتقبل الآخر المختلف، واحترام قناعاته وخصوصية شعائره وشرائعه، باعتبار أن الاختلاف والتنوع حقيقة إنسانية، ومن آيات الله في الإنسان والكون.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

إعلامي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"