بعيداً عن النسيان

05:22 صباحا
قراءة 4 دقائق
** محمد عبد الله البريكي *

لا يمكن لأي متابع للمشهد الشعري الفصيح في الإمارات أن لا يمر على تجربة حبيب الصايغ، ويطلع على خصائصها وسماتها، فالصايغ يعد من الشعراء الذين نهلوا في التراث الشعري، واستفادوا منه بشكل كبير لدرجة أنه سمى أحد دواوينه «هنا بار بني عبس.. الدعوة عامة» الذي صدر عام 1980. وهي أولى كتاباته المنشورة وأهمها، والتي يرى فيها أنها شيء مختلف، وأنها بمثابة نظرة للتراث بعين أخرى، فهو في هذه القصيدة أعاد قراءة سيرة الشاعر عنترة بن شداد فارس قبيلة بني عبس وشاعرها وقال عنه: كنت أراه لا ينشد حرية الآخرين، وإنما ينشد حريته الشخصية، أما باقي العبيد فكان لا يعيرهم اهتماماً ويبحث عن مجده الشخصي، إذن ما الذي يريده حبيب الصايغ من إعادة قراءة هذه السيرة؟ هل هو مع عنترة الشاعر المعتد بنفسه، أم يراه ذلك الذي يبحث عن ذاته في معزل عن الآخرين؟
من هنا يتضح التوجه الحداثي والتجديد الذي ينشده الصايغ، والذي دعا الآخرين إلى تأمله من خلال دعوة عامة لإعادة قراءة التراث والاستفادة منه بوعي، وإدراك ما وراء السرد من أحداث قد لا تكون واضحة إلا إذا سبر أغوارها من يمتلك حساً وذائقة عالية من خلال قراءة متأنية ترتبط بالأحداث كلها لا بما يقوله الرواة أو تسرده الكتب من آراء قد لا تتوافق مع الحقيقة أو قد تنافي جزءاً مهماً منها، ولذلك قال الصايغ عن هذه التجربة: بدأت من جديد في كتابة قصيدة «هنا بار بنى عبس.. الدعوة عامة»، ويمكن أن نقول هنا إن كتابة الشعر ليست «لعبة» لذلك أحاول أن أكون جديداً وأن أقول ما لم يقله أي أحد قبلي، ولا يمكن أن يقوله أحد غيري، ودائماً ما أقوم بتحدي نفسي في الكتابة، والخروج بكل ما هو جديد، وأن يكون شيئاً مثيراً للدهشة دون أن يكون هذا متعمداً لإثارة الدهشة، ولا أكون مفتعل الموضوع، وأن تكون الدهشة تلقائيةً، وأن يكون هناك تجريب دائم وشكل جديد ومضمون جديد.
ثم بعد عام أصدر ديواناً آخر يثبت فيه أنه سائر على نفس هذا النهج، وأنه معتد بما يراه في هذا الاتجاه، فأصدر ديواناً بعنوان «التصريح الأخير للناطق باسم نفسه 1981» ولا تأتي هذه الخبرة إلا من خلال التجوال بين أروقة الكتب، وبين المدن التي تشي عمارتها وآثارها وحداثتها بالكثير، ولذلك كان لأدب الرحلات مكانة خاصة عند حبيب الصايغ الذي أصدر بعد هذا الديوان ديواناً آخر بعنوان «قصائد إلى بيروت 1982» وتوقف عند طنجة وبغداد والبصرة والإسكندرية وخورفكان وأبراج الكويت مثلما توقف عند القرية والطفولة والبحر والجبل والحجر والمرأة والولادة وهو يجوب دروب الشعر وأشكاله ومضامينه التي تطرق بعضها إلى العاطفة، وبعضها إلى القومية والقضايا الاجتماعية وما يرتبط بها من أحداث تلامس وجع الذات وطموح الإنسان، هذه الرحلة وهذا التجوال للشاعر هو بمثابة كنز يعود به إلى الروح لتأخذ منه ما يعينها على رسم صور مختلفة من صور الجمال التي تعبر عنها الحروف، وتشكلها الكلمات، وقد سعى حبيب الصايغ إلى التنظير حول الشكل، فهو يكتب العمود والتفعيلة والنثر، ويرى أن الأشكال تتكامل بقوله: ليس هناك شكل شعرى يقوم بإلغاء شكل آخر، ويقول أيضاً: فأنا لست مع من يقوم بالسخرية من بعض الأشكال الشعرية، فهذا ليس بحقيقي، فالشاعر العربي الحقيقي والذي لديه مشروع شعري هو الذي يكتب كافة أشكال الشعر، وهو ما يؤكده تصريحه في آخر حواراته بجريدة وموقع «البوابة نيوز» بقوله: أنا أكتب القصيدة العمودية مستفيداً من أدوات الحداثة التي أمتلكها، وأكتب قصيدة النثر وفق بنية، لأن الملاحظة الآن في قصيدة النثر أن البعض لا يفرق بين قصيدة النثر والنثر نفسه، فهناك خيط رفيع يفرق بين النوعين، فحين أغمض عيني وأستمع إلى إحدى قصائد النثر، أستطيع أن أفرق إذا كان هذا شعراً أو نصاً نثرياً، وهذا ما يجب أن يتلمّسه الشاعر والمتلقي أيضاً.
ومن يتوقف عند قصيدة «أسمّي الردى ولدي» وهي قصيدة ملحمية طويلة تذكر بالمعلقات وبشعرائها الخالدين، وجمعها في كتاب واحد مثلما جمع الشاعر نزار قباني قصيدة «بلقيس» في ديوان، وفي القصيدة تتجلى تلك التجربة الممتلئة بالنضج، العابرة الانكسار والانتصار في آن، وفي النص ما يبين صراعه مع الموت الذي سماه ولده مثلما اعتبره ابتداءه، هذا الولد المشاكس الذي يلحقه إلى الخلود والذي قال عنه في هذه القصيدة:
كذلك قال العدم / فانثنيت إلى الخلدِ علّي أقاومُ فيهِ فضولي
وأقنع بالنوم أو بالقراءة أو بالندمْ
أو باختراع الأباطيل / أو صحبة الأسْد في الغاب
أو بمحاورة امرأة سبقتني إلى الغيب والجو صحو ومنتشر
في نواحي الأبدْ
وبالموت...حتى إلى الخلد تلحقني يا ابتدائي
أردت أقول: وحتى إلى الخلد تلحقني يا ولد؟!
هذا النص الذي يحتاج إلى قراءة تأملية تكشف المعنى الحقيقي للموت والخلود، فحبيب الصايغ لا يريد أن يقول
«إن الموت هو نهاية المطاف» بقدر ما كان يريد أن يقول «إن القصيدة تتبع صاحبها إلى الخلود، وتتحدى الموت الذي يفترس الكثير من الكتابات، ويرميها في طي النسيان»، فالقصيدة هي بداية الحياة الخالدة، وحين يموت الشاعر تبقيه حياً ولا تسمح للزمن بنسيانه، مثلما يقول شاعر نبطي «بعض القصايد ميّته ما بها روح / اللي كتبْها حيْ ما يذكر بْشيْ / وبعض القصايد حيّة من عهد نوح / اللي كتبْها ميّت وْذكْرها حيْ»
هذا هو ما يطمح إليه الشاعر حبيب الصايغ رحمه الله، فهو يريد ممن يقرأه أن يزيح عن كتاباته الستار، ويدخل في نصه ليسبر أغواره، فهو في ذات القصيدة يقول:
فهيّا أزيحوا الستارَ سريعاً
ليجمعنا مهدنا من جديد
ونحيا عمالقة أو أبالسة
في الطريق إلى موتنا الأبدي
وهذا هو ما يطمح إليه كل شاعر يريد لقصيدته التي كتبها بالدمع والسهر والوجع والحلم والأمل والحياة أن تبقى خالدة بعد رحيله، فلا يخلد من الشعر إلا ما لامس الروح، والتحم بوجع الآخر، وعاش معه تفاصيله، وجسد ما تمر به الأوطان من أحداث وهي تشق طريقها نحو المجد والخلود.

* مدير بيت الشعر في الشارقة

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"