عثمان حسن
هل سمعتم بحياة «مثالية سماعية» للإنسان تسيطر عليها الموسيقى؟.. هل سمعتم عن اللحظة الفاصلة بين الرقي وانعدام الحكمة، وانحطاط الثقافة؟
إنها تشبه اللحظة التي تعيشها المجتمعات في ظل الاضطراب والفوضى وانعدام الأمن. «حياة سماعية».. وما علاقة ذلك بالثقافة؟ قد يسأل أحدهم.
يذكر هرمان هيسه في روايته «لعبة الكريات الزجاجية» أن للموسيقى قوة تتسلط على الأرواح والأقدام، وتسير البشر كأنها «وزير» آمر وقانون ينضوي له الناس ودولهم، هذه الرواية العميقة التي تحتاج إلى إصغاء شديد، تجول بقارئها في عوالم فلسفية وفنية وعلمية، وفيها قدر كبير من الخيال، في تصويرها لحيوات الشخوص وفي تركيب أحداثها، وبما فيها من اهتمام شديد بالانفعالات البشرية.
والرواية كما وصفت «كتاب في تاريخ الثقافة، وفي الحكمة»، تناول فيها الكاتب ثقافة العصر الحاضر بالنقد الدقيق والتقييم، وخرج من نقده وتقييمه بآراء جديرة بأن يأخذها الإنسان على محمل الجد، ويتأملها ويتدبرها ويفيد منها.
أكثر من ذلك، فقد اشتغل هيسه في هذه الرواية بتروٍّ هائل، كما اضطرته إلى أن يقرأ في ثقافة القرن الثامن عشر في أوروبا، وأيضاً إلى دراسة الموسيقى، هذه التي نجدها في روايته الشهيرة «بيتر كامينتسند» التي اعتبرها سيجموند فرويد من أفضل روايات هيسه، وكان هيسه فيها قد اعتبر الموسيقى عنصراً ثقافياً هائلاً؛ بل إن الموسيقى عنده كانت نواة مهمة للثقافة.
جاءت «لعبة الكريات الزجاجية» وكأنها تمثل تعبيراً متكاملاً، ومنسجماً عن الثقافة وعن مضامين الفكر البشري، بما دعت إليه من ضرورة الانسجام والاعتدال الفكري، وبما فيها من مضمون إنساني يشي بالصفاء والعدل والتأمل.
لكن ماذا عن الموسيقى والحكمة الصينية القديمة؟.. الصينيون القدماء، كانوا يساوون بين ازدهار الحياة أو تدهورها وبين ارتقاء أو انحطاط الثقافة، والموسيقى بالنسبة لهم كانت تصدر عن حكمة، أسست لمفهوم الدولة والأخلاق، وكان النظر إلى استيعابها ووعيها، يعادل عندهم قانوناً فلسفياً ينظر إلى الكون بوصفه محكوماً بقوتين متناقضتين، إحداهما تمثل قوة النور، والثانية تمثل قوة الظلام.
أما من يبلغ الكمال، فهو صاحب الحظ والرؤية والحكمة الذي يبلغ مرتبة النقاء «البشري».
والموسيقى بحسب الخبراء والمختصين، لغة تعبير تمتاز بقوتها وبراعتها، ولعلها من أكثر الفنون تحفيزاً للعقل والوجدان أيضاً، وقد كانت رفيقة كثير من الكتاب والفلاسفة والمفكرين والمبدعين التشكيليين، الذين رووا مدى تأثيرها في إبداعاتهم الذوقية والجمالية.
في الشعر على وجه الخصوص، تستطيع أن تذكر أكثر من شاعر ملهم، تحدث عن قوتها الهائلة، وقد حركت عنده محفزات الوعي، وهي قوة لا يستطيع سوى الشاعر أن يرصد مفاعيلها، تبعاً لحالته النفسية والشعورية، حزناً أو بهجة، أو حتى غضباً وانفعالاً.
في اليونان القديمة تألقت الموسيقى الإغريقية في الأعمال المسرحية التي كانت تضم الموسيقى إلى الرقص والغناء الفردي والثنائي الجماعي، وأكثر من ذلك كما تؤكد المصادر فقد كان مؤلفو الدراما الأثينيون يضطلعون أيضاً بإعداد النص والألحان الموسيقية، وتدريب المغنين والعاملين في الإخراج المسرحي؛ بل وبأداء أحد الأدوار المسرحية. وكانت مسرحياتهم في الغالب الأعم مسرحيات غنائية تلعب الموسيقى الدور الرئيسي فيها، مثل مسرحية «الضارعات» لإيسخولوس. وحتى المسرحيات التي يضطرم جوهرها الدرامي، مثل مسرحية عابدات باكخوس «باكانت» لأوريبيديس.
أياً يكن، فهي الموسيقى الشفيفة والفاتنة، الساحرة المجردة من كل السوءات والإساءات والفظاعات، تلك النسمة الشعرية المجردة التي ظلت وما تزال رفيقة المبدع، الحانية على صفائه الداخلي، تتلبسه فتجذبه إلى حلاوتها، وندى ما تفيض به من نعمة الفكر والأدب والجمال.
موسيقى بلا رتوش، ومن دون صخب، تنحاز للنور لتقتل الظلام، وتنحاز للفرح ضد بشاعة القتل، وتنحاز للخير والعدالة والسلام.