مسخ الكائن البشري

03:09 صباحا
قراءة 7 دقائق

يوسف أبولوز

(1)

قبل مئات السنوات، قال ليوناردو دافنشي 1452-1519 في فصل من أعماله الأدبية تحت عنوان «نبوءات» عن الأطباء الذين يعيشون على المرض: «يأتي زمانٌ على النّاس ينحطّون فيه أبشع انحطاط، فيصفحون عمّن يظفر بمنفعةٍ من آلامهم، أو من خسارتهم لثروتهم الحقّة، أي الصّحة..»، وبالطبع، لم يكن دافنشي نبوئياً إلى درجة أنه كان يتوقع أن يجري في القرن التاسع عشر والعشرين، وربما قبل ذلك تصنيع الموت عبر شتّى السبل.. صناعة أمراض بعينها من أجل تسويق أدوية وعقارات كسدت سوقها عند الشركات الكبرى العابرة للقارّات أو تلك التي تحكم العالم عبر البنوك المرعبة التي تتحكم باقتصادات الدول، وبخاصة البلدان الفقيرة أو تلك التي تصنّف بلدان العالم الثالث، إذ يخطر على البال دائماً أن أغلبية الأوبئة الفاتكة بالبشرية تظهر في بيئات فقيرة، وبخاصة الجدري والجذام، أو بيئات ملوّثة إذ تظهر الكوليرا، والملاريا، والسل، والتيفوئيد، والغريب أن هذه الأوبئة تخرج بأسماء جديدة من خلال مصطلحات ومعامل علماء الصحة والبيئة والأمراض، فمثلاً.. الطاعون أعطوه اسم الموت الأسود، والملاريا هي الهواء الأصفر، حتى الحمى لها ألوان.. فهناك الحمّى الصفراء التي يتسبب بها نوع من البعوض لا نظنه يتكاثر في أحياء راقية وبيئة هواء نظيفة.

الأوبئة التي لا تخرج من معامل علماء الشر وصنّاع الموت، تتكفل الحيوانات باستيلادها أو بظهورها، ولذلك ارتبطت هذه الأوبئة بهذه الحيوانات مثل إنفلونزا الطيور وتحديداً الدجاج، وجنون البقر، وحمّى الخنازير.. هذا الجيل من الأمراض الذي تلا جيل الأوبئة الكبرى، فإذا اعتبرنا أن السل والتيفوئيد والجدري، والجذام، والملاريا والطاعون أوبئة قديمة انقرضت، أو انقرض الكثير منها بفعل تقدّم العلم وصناعة الدواء، ويمكن اعتبارها أيضاً الجيل الأول من الأوبئة، فإن الجيل الثاني هو جيل جنون البقر وجنون الحيوانات الأخرى، ولا ننسى أيضاً أن نضيف إليها الإيدز.. تلك الأمراض التي تنام ثم لا تلبث أن تستيقظ. إنها أمراض غامضة مواربة، ولكنها لا تصل إلى درجة الوباء، وسواء أكانت أوبئة أم كانت أمراضاً، فإن الموازي الموضوعي لها صنّاع الأدوية، واليوم، وقد حصد مرض الكورونا العشرات حول العالم، سارعت الصين التي ظهر فيها المرض إلى الإعلان عن دواء سوف يحدّ من خطورة هذا المرض العابر للقارّات، أو على الأقل يخفف من كارثيته، وإذا لم تسارع دول أخرى في حجم ألمانيا وأمريكا إلى صناعة دواء جديد مضاد للكورونا وطرحه في الأسواق، فإن العلاج الصيني هو الذي سوف يغزو العالم.

هذه نقطة.. النقطة الثانية أعلنت منظمة الصحة العالمية أن «الكورونا» هو وباء عالمي، ونحن هنا إذ نكتب عن الأوبئة من زاوية ثقافية، تأملية، فإن ما يُفرّق دول العالم من سياسات وتحالفات ومحاور مصالح أو نقيض المصالح.. كل ذلك ينتهي في الحال، فيتوحّد العالم في حلف واحد أو في محور واحد أمام الوباء الذي لا تلقطه الرادارات العسكرية، ولا يمكن القضاء عليه بصاروخ أرض جوّ، أو اصطياده بطائرة مسيّرة.

أمام وباء عالمي مثل الكورونا أو مثل ما تبقّى من عائلة الأوبئة القديمة المرعبة، وأكثرها قبحاً الجذام.. يتوحّد العالم وينسى حتى خلافاته الحدودية والأيديولوجية، وعلى سبيل المثال لا يمكن لدولة عقائدية حمراء مغلقة مثل كوريا الشمالية أن تبقي بابها مغلقاً دون الدواء العابر للقارّات إذا هاجم المرض تلك البلاد أو غيرها من بلدان تعتبر نفسها قلاعاً أيديولوجية.

لا يعرف المرض السياسة، والأوبئة تجمع السياسيين كلّهم على طاولة مستديرة، وتجعل منهم مستنفرين على مدى الأربع والعشرين ساعة. هكذا، كانت الكوليرا ليست زمناً للحب، ولا للسياسة، مع أن السياسة هذه التي تصنع الحروب عادة أو في الكثير من الأحوال هي ذاتها سبب في الأمراض، فالجثث المطروحة في أرض الحروب، المتحلّلة والتي بقيت في العراء نهباً للنسور والطيور الجارحة هي سبب آخر في الطاعون، و نشر الهواء الأصفر الملوّث.

(2)

ولكن.. ما الذي يفعله الوباء بالإنسان؟ ما الذي يفعله بالجسد البشري؟ وكيف يحوّل هذا الجسد الآدمي الجميل إلى مسخ؟.. نعم مسخ أين منه مسخ كافكا، أو مسخ أوفيد، فأمامي الآن صورة رجل نرويجي أصيب بالجذام عندما كان شاباً في الرابعة والعشرين من عمره في الموجة المرعبة للجذام الذي ضرب أوروبا في عام 1886.

يبدو وجه الرجل مشققاً، وقد غطّت الشقوق جبهته ووجنتيه وأنفه وذقنه، وتحوّل إلى ما يشبه الطين المقدّد، مدعوك، ومشقوق، وقد أزيلت عنه أية ملامح بشرية مألوفة، وفي عام 1895 ضرب الجذام تاهيتي، ويبدو أنه يقطع في ما يقطع الأطراف أو الأصابع، هكذا ظهرت صور أشخاص مجذومين في التبت أيضاً، ولكن لماذا نشغل أنفسنا بالصور؟، لماذا لا نذهب إلى رواية معاصرة وصفت بأنها رواية مروّعة بعنوان «المبعدون» للروائي أوجيني سباهيتش (مواليد 1977 في بودجورتيشا - الجبل الأسود)؟، وقد استعار الكاتب مقطعاً من قصيدة للشاعر الفرنسي رينيه شار بعنوان «برق النصر» يقول فيها: «مع الثلوج البطيئة يهبط المجذوم» كمدخل لروايته التي تتحدث عن آخر موطن أوروبي لمرضى الجذام، كما يقول، أو مستعمرة الجذام جنوبي شرق رومانيا «.. وسط مناظر الظلام المجذومة والأرض الجرداء».

يقول بطل الرواية.. «كنّا محجوزين في مستعمرة الجذام منذ عام 1981 للحدّ من تكاليف النقل إلى محرقة الجثث في بوخارست، وتجنباً لإرسال جرار الرماد للأسر في جميع أنحاء أوروبا» وفي الرواية يُشار إلى مشهدين مرتبطين بالجذام هما الأكثر شيوعاً في أذهان الناس كما يقول سباهيتش، «أولاً مشاهد من فيلم «بن هور» ل «ويليام وايلر»؛ حيث تظهر مستعمرة جذام تجوب الأرض كما لو كانت عقاباً من الإله، وثانياً: الخوف من الانحراف البيولوجي الذي سمح بخطأ فادح من الطبيعة».

صورة المجذوم تجاه الآخرين الأصحاء تلخّصها الرواية على النحو التالي: «كانوا يعتقدون أن لحمنا الشرس الشاحب، وزوائدنا المنتفخة على ظهورنا، وأذرعنا، ورقابنا تحتوي جراثيم المرض التي تنتظر فقط لأن تندفع وتنشر هذا المرض القديم بطريقة ديمقراطية. القرويّون الرومانيون متلبّدو البديهة، وأصحاب العقول المتعفّنة بالمخاوف غير المنطقية والخرافات، يعتبروننا منبوذين من الإنسانية، وأشراراً أيضاً، حتى أنهم يمنعون أطفالهم القِباح من اللعب على بعد أمتار من سياج مستعمرة الجذام»، وفي مكان آخر يقول أحد المجذومين.. «.. كل مجذوم يريد معرفة كيف تشوّهت أجساد الآخرين، وهو الموضوع المعتاد في حواراتهم الخاصّة وكأنه لعبة».

إن العزل هو مصير المجذوم. يجري بالضرورة فكّ ارتباطه البشري والإنساني مع مجتمعه، ويترك وحيداً أو مع محيطه المجذوم إلى أن يموت ثم تحرق جثته ويخفى رماده.

هذا العزل الضروري لا ينطبق على المجذومين فقط، بل إن المصابين بهذه الأوبئة الكبرى المريعة يجري عزلهم أيضاً، سواء أكانوا مصابين بمرض معدٍ أو غير معد. فالمصاب بالإيدز مثلاً وهو مرض غير معدٍ هو أيضاً معزول.

يتماثل العزل في هذه الحالة مع ما يسمى في الطب الحديث «الموت الرحيم» الذي تسمح به بعض القوانين في بعض الدول فيما تحرّمه قوانين أخرى، فالحقنة القاضية تعطى لمريض عانى المرّ في عزله المرضي وهو يتابع احتضاره وانسحابه من الحياة.

(3)

أمراض وأوبئة قتلت الكثير من الشعراء والشخصيات المعروفة في التاريخ، الكوليسترول قتل محمود درويش، الذي كان يقول أنا أؤلف الشعر، وجسدي يؤلف الكوليسترول، وظل وجه الشاعر اليمني عبدالله البردوني محفّراً إثر إصابته بالجدري الذي أصيب به أيضاً الشاعر الفيلسوف أبو العلاء المعرّي، وأصيب ستالين أيضاً بالجدري، أما الكاتب الرّوسي (الطبيب) أنطون تشيخوف فقد كان مصاباً بالربو، وفي مصادر أخرى كان مصاباً بالسل، ومن لم يصبْ بمرض أو بوباء من الأدباء فإنه كتب عن المرض كما فعلت الشاعرة العراقية نازك الملائكة.. صاحبة القصيدة المعروفة «الكوليرا»، والقصيدة تتحدث عن هذا الوباء الذي ضرب مصر في العام 1947، وكُتب عن هذه القصيدة بالذات الكثير من الدراسات، ولذلك، سأتركها جانباً، وأذهب إلى قصيدة للشاعر اللبناني بشارة الخوري «الأخطل الصغير» 1885-1968 بعنوان «المسلول» كتبها في شاب وسيم أصيب بالسلّ. قصيدة إنسانية فيها مرثية للشباب الذي يفتك به المرض. وبالتالي، المرض الذي يفتك بالحب. هذا الجسد البشري الجميل تحوّلت عيناه إلى عالقتين في نفق «كسراجِ كوخٍ نصف متّقد»، ثم إليك هذا الوصف لمريض السل:

«يمشي بعلّته على مهلٍ

فكأنه.. يمشي على قصد

ويمجّ أحياناً دماً. فعلى

منديله قطع من الكبد

قطع تآبين مفجعة

مكتوبة بدمٍ بغير يدِ

قطع تقول له: تموت غداً

.. وإذا ترقّ، تقول بعد غدِ

والموت أرحم زائر لفتىً

متزمّل بالدّاءِ مغتمدِ

لكنه، والدّاء ينهشه

كالشلو بين مخالب الأسد».

(4)

أعود من حيث بدأت في هذه المادّة.. أقصد الانتهازية التجارية عندما يتخلّص أربابها من إنسانيتهم ويتحوّلون إلى وحوش، ومرة ثانية عندما يتحوّل الطبيب إلى مجرم، ففي الولايات المتحدة الأمريكية، كما يذكر ممدوح عدوان في كتابه «حَيْوَنة الإنسان» وخلال عام 1972 تم تعقيم 16 ألف رجل وثمانية آلاف امرأة بالقوّة، وأشير للقارئ إلى أن التعقيم هو عبارة عن أدوية وعقاقير وأمصال تعطى للرجل كي يصبح عقيماً وتصبح المرأة عاقراً أي القضاء على عملية الإنجاب.. «.. وتصرّ جمعيات التعقيم الأمريكية على أنه يجب تعقيم 10٪ من السكان؛ لكي يتم إنقاذ العِرْق الأبيض من الاندثار..».. ولم يُلغَ قانون التعقيم إلاّ عام 1973، وكان بدأ في الخمسينات من القرن العشرين.

في السويد، وبحسب «حَيْوَنة الإنسان» فإنه منذ 1935 وحتى 1976 هناك أكثر من 600 ألف مواطن سويدي جرى تعقيمهم (أي جعلهم عقيمين) وإصابتهم بالعقم المتعمّد من دون إرادتهم، أو من دون أن يعرفوا بما كان يجري لهم. وهؤلاء، موضوع التعقيم هم المعوّقون جسدياً أو عقلياً وغير المرغوب فيهم اجتماعياً، وبين المعقّمين غجر ومشرّدون والذين هم ليسوا من العِرْق السويدي الأصل.

والأسوأ أيضاً، كما يذكر عدوان.. إجبار المئات من الأطفال المعاقين عقلياً، في البلدان المتقدّمة، «على أكل أطعمة تحتوي على مقدار كبير من السكّريات لدراسة تأثيرها في الأسنان، وقد دافع الأطباء عن أنفسهم بالقول إن هذا من أجل الصحّة السنيّة للبلاد».

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"