البحث عن سعيد مهران

02:13 صباحا
قراءة 4 دقائق

بعد ستين سنة من مقتل السفاح «محمود أمين سليمان» مطلع ستينات القرن الماضي، التي استلهمها «نجيب محفوظ» في بناء شخصية «سعيد مهران» بطل روايته «اللص والكلاب»، نسبت الصفة نفسها إلى رجل آخر «عبدالرحمن دبور»، الذي هزت جريمته الرأي العام ببشاعة مشاهدها المصورة، كما لم يحدث من قبل.
جرى كل شيء -هذه المرة- في عرض الطريق العام بمدينة الإسماعيلية، أمام المارة وتحت رقابة الكاميرات، قام بذبح مواطن بساطور، وتجول برأسه في المكان حتى تمكن منه المارة.
انتشرت المقاطع المصورة على شبكة التواصل الاجتماعي، خضعت الحادثة لتغطيات موسعة غير معتادة، وسجلت شهادات من موقع الحادث، اختلطت المعلومات بالشائعات، وبدا المشهد كله أقرب إلى محاكمة مبتسرة أمام الرأي العام، بعض الكلام ثابت عن تعاطيه مواد مخدرة يوم الواقعة، وبعضه الآخر غير دقيق إذا ما كانت «جريمة شرف» أم لا؟!
بأية إطلالة عابرة على صفحات الحوادث فإننا أمام مجتمع يتحول ويتفاعل وتنشأ داخله ظواهر مستجدة في الجريمة دون أن تخضع لدراسة حقيقية.
حادثة الإسماعيلية إشارة خطر تستدعي محاكمة المجتمع، قبل «دبور»، لندرك مواطن الخلل في بنيته وما قد تؤول إليه مستقبلاً.
في «اللص والكلاب» حاكم «نجيب محفوظ» المجتمع، قبل السفاح.
بأية محاكمة عادلة مصير «دبور» معروف سلفاً، فالجريمة البشعة علنية ومصورة، وهو معترف أمام النيابة بارتكابها، ولا يوجد من هو مستعد أن يبدي أدنى تعاطف معه حتى داخل أسرته نفسها.
بمضي الوقت سوف يتراجع حجم التغطيات الإعلامية للحادث المروع، غير أن مغزاه الاجتماعي سوف يبقى في مسرح الجريمة: لماذا توحش العنف إلى هذه الدرجة المروعة؟ وما العمل لتخفيض الكُلفة الاجتماعية وحصار أسبابها وآثارها السلبية؟
في «اللص والكلاب» أجرى «نجيب محفوظ» على لسان «سعيد مهران» محاكمة تخيلية دافع فيها عن نفسه قبل مقتله بوابل من رصاص الشرطة استسلم له بلا مبالاة:
- «إن من يقتلني إنما يقتل الملايين، أنا الحلم والأمل وفدية الجبناء، وأنا المثل والعزاء والدمع الذي يفضح صاحبه، والقول إنني مجنون ينبغي أن يشمل كافة المتعاطفين فادرسوا أسباب هذه الظاهرة الجنونية واحكموا بما شئتم».
كانت تلك عبارة كاشفة لفلسفة العمل الروائي كله، مأساة السفاح ومأساة المجتمع نفسه.
انتابت «سعيد مهران»، وهو في حالة دوار يكاد لا يستبين ما حوله، حالة جنون عظمة، متأثراً بحجم التغطيات الصحفية للجرائم التي ارتكبها والرصاصات الطائشة التي أطلقها ونالت من أبرياء دون أن يصل إلى الذين خانوه.. والكلاب التي تطارده.
استلفت نظر «نجيب محفوظ» في قصة «السفاح» «محمود أمين سليمان» أن قطاعاً من المواطنين تعلقوا به ونظروا إليه كما لو كان بطلاً، استلهم القصة الواقعية، وبنى عالماً مختلفاً حاول فيه بحس الروائي العظيم أن يقترب من حقائق مجتمعه وأزماته المسكوت عنها دون أن يقع في مطبات المباشرة والوعظ والإرشاد.
في المحاكمة المتخيلة، التي أجراها «سعيد مهران» لنفسه، دعا إلى دراسة ما سماه «الظاهرة المجنونة»، أن يعجب قطاعاً واسعاً من الرأي العام برجل ينتهك القانون وتنال رصاصاته الطائشة من أبرياء.
في كل العصور تحظى تقليدياً أخبار الجريمة بنسبة قراءة مرتفعة.
لم تكن المدارس الصحفية المحافظة تعتني كثيراً بأخبار الجريمة، لا تنشر في الصفحات الأولى، ولا يتم إفراد أبواب موسعة لها.
كادت المدارس الصحفية الشعبية أن تحتكر هذا النوع من التغطيات الصحفية، غير أن انتشار الجريمة العنيفة في تسعينات القرن الماضي، كظاهرة قتل الأزواج ب«السواطير»، دعا المدارس الصحفية المحافظة إلى التوسع في التغطية وإنشاء باب خاص لمتابعة الحوادث.
هكذا فرضت ظواهر المجتمع نفسها على العمل الصحفي باختلاف مدارسه.
الجديد –هذه المرة- أن وسائل التواصل الاجتماعي هيمنت على التغطية بشهادات ومقاطع مصورة تلاحق التطورات دون تدقيق اعتادته الصحافة الورقية والتلفزيونية.
بدورها حاولت السينما أن تلاحق ظواهر العنف في المجتمع، والجرائم المستجدة بدرجات مختلفة من الجودة الفنية.
كان فيلم «احنا التلامذة» عملاً رائداً أقرب إلى جرس إنذار للأسرة المصرية عند عام (1959)، استوحى مادته الدرامية من تورط أربعة شبان في قتل صاحب بار، كيف ضاع مستقبلهم؟.. ومن يتحمل المسؤولية؟ كانت تلك وثيقة إدانة سينمائية للمجتمع.
في تلك التجارب الأدبية والفنية يظل «اللص والكلاب» عملاً فريداً يتحدى الزمن باتساع نظرته وثراء شخصياته.
«لتكن ضربتك القوية كصبرك الطويل وراء الجدران».
هكذا حادث «سعيد مهران» نفسه، وهو يتأهب للانتقام من زوجته «نبوية» وصبيه «عليش» الخائنين، قبل أن يضيف إليهما الصحفي «رؤوف علوان» مثله الأعلى الذي تنكر لمبادئه وأفكاره التي لقنها له.
- «يسعدني أن أعمل صحفياً في جريدتك!.. أنا مثقف وتلميذ قديم لك، قرأت تلالاً من الكتب بإرشاداتك».
كانت تلك محاكمة ساخرة من لص أفرج عنه للتو ل«للمثقف الخائن»، أو الصحفي الانتهازي، ولمهنة الصحافة عندما تتنكر لقيمها الأخلاقية.
مهما اختلفت العصور ودرجة بشاعة الجرائم تظل رواية «اللص والكلاب» ملهمة لجدوى البحث عن «سعيد مهران»، أو أن نعرف بالضبط في أي مجتمع نعيش.
 

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"