إشكالات ما بعد الانسحاب الأمريكي من سوريا

03:17 صباحا
قراءة 4 دقائق
د.إدريس لكريني

تُبرز تطورات الأحداث في سوريا؛ أن تأخر الفاعل المحلي في بلورة حلول كفيلة بتجاوز حالة الاحتقان التي شهدتها البلاد منذ عام 2011، أسهم بشكل كبير في تعقّد الأوضاع، ودخول أطراف إقليمية ودولية كبرى على الخط، ما عقّد الأوضاع أكثر، استحال معها إرساء حلّ مستدام؛ دون المرور عبر توافقات مع هذه القوى الأجنبية.
ورغم الانفراج الذي حدث في الآونة الأخيرة، مع استقرار الوضع الأمني، وتضييق الخناق على تنظيم «داعش»، وتراجع حدّة الصراعات والاستقطابات الإقليمية والدولية بشأن هذا الملف، فإن الكثير من المراقبين والباحثين يرون بأن الرهان الأكبر لم يعد هو تحقيق الاستقرار على الأرض ووقف العمليات العسكرية ورحيل القوات الأجنبية فقط، بقدر ما أضحى متمركزاً حول تدبير مرحلة ما بعد تحقق هذه الرهانات، خاصة وأن الأزمة السورية أفرزت تداعيات وانعكاسات إقليمية ودولية، ما زالت قائمة ومطروحة بحدّة على عدة واجهات.
استمراراً لسياساته المثيرة للجدل، قرّر الرئيس الأمريكي سحب قوات بلاده من سوريا، ما أفرز مواقف داخلية وإقليمية ودولية مختلفة، تباينت بين تثمين الخطوة باعتبارها مؤشّراً على توفير أجواء تدعم الاستقرار في سوريا، وإعلاناً عن نجاح الحملة العسكرية التي استهدفت القضاء على تنظيم «داعش» في المنطقة.. وبين من اعتبر أنّ الأمر يفتح المجال أكثر لمزيد من التوتر والإشكالات التي ستلقي بظلالها قريباً على أمن واستقرار المنطقة، وعلى التوازنات التي حرصت الولايات المتحدة إرساءها في هذه الأخيرة منذ اندلاع الأزمة.
فأكراد سوريا الذين دعموا الجهود الأمريكية لمحاربة «داعش»، عبّروا عن تخوفهم الكبير من تحركات عسكرية تركية يمكن أن تستهدفهم بعد هذا الانسحاب، فيما عبّرت بعض النخب السياسية الأمريكية عن خشيتها من أن يتيح هذا الانسحاب، الفرص لتمدد إيران وروسيا بشكل أكبر في المنطقة، أو بانتعاش جماعة «داعش» من جديد..
وجدير بالذكر أن الولايات المتحدة ربطت وجودها منذ البداية بتحقيق ثلاثة رهانات، أولها مرتبط بالقضاء على تنظيم «داعش»، وثانيها، متصل بتضييق الخناق على إيران، أما ثالثها، فيتعلق بالسعي إلى تعزيز الاستقرار، ودعم الحلّ السياسي في سوريا، انسجاماً مع قرارات الأمم المتحدة في هذا الخصوص.
تندرج خطوة الانسحاب ضمن السياسات البراجماتية التي أرساها الرئيس الأمريكي «دونالد ترامب»، منذ مجيئه إلى البيت الأبيض، والتي تنحو إلى تقليل كلفة التدخلات الأمريكية، والضّغط باتجاه الحصول على مقابل؛ لقاء أي خطوة عسكرية تقوم بها أمريكا..
يستأثر الموقع المعني بالانسحاب الأمريكي بأهمية استراتيجية، بالنظر إلى أنه يعني مساحة شاسعة من التراب السوري والتي تصل إلى الثلث، علاوة على كونه يضم عدداً مهمّاً من المقاتلين الأكراد الذين واجهوا تنظيم «داعش»..
خلفت الخطوة الأمريكية قدراً كبيراً من الاستياء في أوساط أكراد سوريا، بالنظر إلى كونها ضيقت هامش المناورة أمامهم، وجعلتهم وجهاً لوجه أمام تركيا التي ظلت تعتبرهم جزءاً من الإرهاب، وكردٍّ على هذا الوضع، وكسبيل لطمأنتهم، أطلق الرئيس الأمريكي، تهديدات باتجاه تركيا محذراً من أنها ستواجه كارثة اقتصادية في حال ما أقدمت على مهاجمة الأكراد في أعقاب هذا الانسحاب، داعياً الأكراد بدورهم إلى عدم القيام بأعمال «مستفزة» لتركيا، وهو ما أفرز نقاشات سياسية وأكاديمية بصدد مستقبل العلاقات الأمريكية - التركية في خضم هذه التحولات، ومصير الأكراد في سوريا ما بعد الانسحاب، وما إذا كان الأمر يعكس مبادرة أمريكية تنحو إلى خلط الأوراق من جديد، أو تهيئة الأوضاع لإعمال صفقة جديدة مع إيران على شاكلة الملف النووي الكوري الشمالي، الذي تمّ تذليل الكثير من عقباته في الآونة الأخيرة..
وفي الوقت الذي تعالت فيه المطالب الداعية إلى فرض «منطقة آمنة» على الحدود، تضمن الحماية للأكراد وتركيا في نفس الوقت، وكسبيل لمنع أي تطور عسكري بين الجانبين، عبّرت تركيا عن رفضها لأي توجه في هذا الإطار.. وما زاد قلقها في هذا الصدد، هو كمّية السلاح التي حصل عليها الأكراد لمحاربة الإرهاب؛ في خضم الإشكالات التي عصفت بالعراق وتركيا في السنوات الأخيرة..
حقيقة أن العلاقات الأمريكية - التّركية، شهدت تراجعاً ملحوظاً في السنوات الأخيرة، وخصوصاً منذ عام 2016، مع توالي الخلافات بشأن عدد من الملفات والقضايا الشائكة التي ظلت عالقة بين البلدين، والتي طرحها الدعم الأمريكي للمقاتلين الأكراد في سوريا (وحدات حماية الشعب التي تعتبرها تركيا منظمة إرهابية)، وفرض عقوبات أمريكية على تركيا في أعقاب احتجاز القسّ الأمريكي «أندرو برانسون» بتهم مختلفة.. علاوة على انزعاج واشنطن من التنسيق الإيراني - الروسي - التركي، بصدد الملف السوري، إضافة إلى ما أثارته الدعوة التركية لأمريكا بتسليم الداعية الإسلامي «فتح الله جولن» بتهمة الضلوع في محاولة الانقلاب الفاشلة في تركيا عام 2016، مع رفض أمريكا لهذا المطلب..، غير أن بعض التوقعات المتشائمة لا تخلو من مبالغة، وبخاصة إذا استحضرنا حجم المصالح التي تربط الجانبين، علاوة على عضويتهما معاً داخل حلف شمال الأطلسي، ولذلك يظل الاحتكاك العسكري مستبعداً بشكل كبير بين الطرفين.
وفي مقابل ذلك، وأمام تزايد الدعوات داخل الولايات المتحدة إلى التأنّي في سحب القوات الأمريكية حتى القضاء النهائي على تنظيم «داعش» الذي ما زال يهدّد المصالح الأمريكية والأمن والسلم الدوليين، يبقى من المستبعد أن تتخلّى الولايات المتحدة عن دعمها لأكراد سوريا، بالنظر إلى المراهنة على دورهم في مواصلة القتال ضد ما تبقى من تنظيم «داعش» بالمنطقة..
وبغض النظر عن التداعيات الإقليمية والدولية التي يطرحها الانسحاب الأمريكي من سوريا، وانعكاساتها على أمن واستقرار المنطقة، فإنه يشكّل فرصة لمراجعة الأوراق، وبلورة حلّ دائم يدعم وحدة الدول واحترام سيادتها، بعيداً عن الأجندات أو التدخلات الخارجية، التي لا تولي الاهتمام إلا لمصالحها المتغيّرة..

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

​باحث أكاديمي من المغرب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"