النخب السياسية لا تولد بقرار

00:04 صباحا
قراءة 3 دقائق

قبل خمسين سنة بالضبط بدت الانتفاضة الطلابية، التي عمت الجامعات المصرية في يناير 1972، إيذاناً بميلاد جيل جديد أطلق عليه جيل السبعينات. سرت روح مختلفة في حركة المج``تمع وتبلورت تيارات سياسية كأنها ميلاد جديد.
وجد الغضب في أوساط الطلاب تعبيره السياسي في تيارين رئيسيين.
*أولهما  «التيار الماركسي» الذي بدأ في إعادة ترتيب صفوفه وبناء تنظيمات جديدة على أطلال ما جرى حله في الستينات، وكان صوته مسموعاً في الجامعات المصرية.
*ثانيهما  «التيار الناصري»، الذي لم يكن قد تبلورت له رؤية تتعدى المطالب الوطنية العامة، وكان جمهوره عريضاً، لكن بلا تنظيم يقود طاقة غضبه.
 كانت «منظمة الشباب الاشتراكي»، أفضل صيغة تنظيمية وفكرية قدمتها ثورة «يوليو»، تعاني ضغوطاً متواصلة انتهت بتصفيتها بعد أن اكتسح آخر انتخاباتها الناصريون الجدد المعارضون لخط «أنور السادات».
 قرب نهاية ١٩٧٤ أعلن لأول مرة طلاقاً سياسياً نهائياً مع أية رهانات على نظام «أنور السادات»، وخرجت قيادات جديدة من أوساط الطلاب تناهضه بلا هوادة.. ككل فعل في التاريخ فإن له ردة فعل.
 أمام حملات الهدم تحركت روح جديدة تنتسب إلى مشروع «عبد الناصر» لا نظامه، تنظر إليه كمثل أعلى لكن لا تقدسه، وتعلمت بالوقت ضرورات نقد تجربته من موقع الالتزام بمشروعها.
 لم يكن بوسع المجموعة الضيقة التي أسست «نادي الفكر الناصري» بجامعة القاهرة في ديسمبر 1974 أن تتوقع الأثر المستقبلي بالغ الأهمية بأي معنى سياسي أو تاريخي لما قرروه.
 كانوا مجموعة من الشبان اليافعين، تجاوز أغلبهم العشرين من أعمارهم بالكاد، لم تكن لهم خبرة تنظيمية سابقة تضارع ما لدى التيار الماركسي، ولا امتداد خارج أسوار الجامعة.
 بدوا تعبيراً عن حالة غضب تبحث عن طريق جديد يُنهي أية أواصر مع نظام الحكم، ويعلن انتقال الناصرية إلى الشارع. بعد وقت قصير اتصلت حركتهم بما حملته من روح راديكالية مع ناد سياسي آخر في جامعة عين شمس، وهو أول ناد في الجامعات المصرية.
 كان الناصريون في جامعة عين شمس يمسكون بمقاليد اتحادها، ويتداولون رئاسته بالنظر إلى قوة «التنظيم الطليعي» فيها.
 عندما حُل التنظيم بعد أحداث مايو 1971 ظلت مجموعته في جامعة عين شمس متماسكة، وواصلت أدوارها في ظروف معاكسة.
 أفضل ما يُنسب للنادي السياسي في جامعة عين شمس أنه نظم على مدى سبع سنوات متصلة ما كان يطلق عليه «لقاء ناصر الفكري».
 في البداية لم يكن ذلك اللقاء السنوي أكثر من تجمع احتفالي يمتد لثلاثة أيام يتذكر «يوليو» وإنجازاتها، ويحضره كبار المسؤولين في الدولة، عندما تحل ذكرى رحيل «جمال عبد الناصر» في ٢٨ سبتمبر من كل عام.
 بسريان الروح الجديدة واتساع مجالها في الجامعات المصرية تغيرت طبيعته إلى منصة معارضة صريحة للسياسات التي يتبعها نظام الحكم.
 أنشئت أندية مماثلة في الجامعات المصرية حملت اسم «نادي الفكر الناصري».
لم يمض وقت طويل حتى أحكم الناصريون الجدد سيطرتهم على اتحاد طلاب جامعة القاهرة، وبسطوا هيمنتهم على اتحاد طلاب الجمهورية ١٩٧٦ قبل الانقضاض على لائحته الديمقراطية بعد انتفاضة «الخبز» عام ١٩٧٧.
كان أول سؤال طرحوه على أنفسهم: من نحن؟.. وماذا نريد؟
 سادت خطابهم نبرات الاحتجاج على ما يحدث. بالتعريف: كانوا حركة احتجاجية، تجتمع بالاحتجاج، وتفرز بالاحتجاج، وتنظم نفسها بالاحتجاج.
 كانت المعركة السياسية الأولى للتيار الوليد ما أطلق عليه: «ملف عبد الناصر»- على حد التعبير الذي شاع في ذلك الوقت.
 لم يكن ذلك خياراً ضمن خيارات. كان الميلاد إجبارياً بقوة رد الفعل.
 غاب ما كانت تحتاج إليه مصر من حوار حول التجربة الناصرية، وسادت رغبة الانتقام من مشروعها قبل أي شيء آخر، فالنظام كان قد سقط من داخله.
 مَال الناصريون الجدد إلى ما يمكن أن نطلق عليها «الدفاع النشط»؛ حيث الرد بالأرشيف وإظهار حجم التناقض في المواقف باختلاف العصور.
 بالفعل ورد الفعل جرت معارك ومساجلات حول بناء السد العالي وتأميم قناة السويس، ودور القطاع العام والإصلاح الزراعي وحرب ١٩٦٧ وسادت روح الدفاع بيانات وتجمعات الجيل الجديد.
 احتاج الناصريون الجدد إلى وقت أطول لإعادة النظر في التجربة ومواطن ثغراتها، التي سمحت بالانقضاض عليها. السياق ضروري لفهم الظاهرة الشابة.
 بالتدريج مال الناصريون الجدد إلى تجديد في الخطاب ونقد تجربة «يوليو» من داخلها ودمج قيم الديمقراطية وحقوق الإنسان في صلب مشروعهم الفكري بجانب قيم التحرر الوطني والعدل الاجتماعي.
 النخب السياسية لا تولد من فراغ ولا بقرار من سلطة. بأية نظرة إلى الأصول السياسية للنخب المصرية المعاصرة، فإن غالبيتها تعود إلى إرث الحركة الطلابية المصرية.
 حاول «السادات» في السبعينات إجهاض حركة اليسار بجناحيه الناصري والماركسي، واستخدم الجماعات الإسلامية في فض التجمعات السياسية والحفلات الفنية بالمدى والجنازير، لكن الفكرة كانت أقوى من العنف والحلم أبقى من السلطة.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"