تونس بين صندوقين

00:28 صباحا
قراءة 3 دقائق

كمال بالهادي

في هذه الأيام لا يسمع التونسي إلا حديثاً عن الصناديق، منها ما هو محلي، ومنها ماهو دولي، فأما المحلي فيتعلق بصناديق الاقتراع والحملة الانتخابية ويوم التصويت، وها قد جرت الانتخابات، ومن المبكر جداً الحديث عن نتائجها وكيفية تشكل المجلس النيابي الجديد، لأن الأمر قد يطول حتى شهر مارس/ آذار المقبل، لنرى أولى جلسات مجلس نواب الشعب.

الصندوق الأوّل كشف عن خباياه من خلال نتائج مشاركة هي الأضعف في تاريخ تونس، سواء ما قبل 2011، أو ما بعده. وهذا العزوف الشعبي الواسع عن المشاركة في الحياة السياسية برمّتها، سواء من خلال الانخراط في الأحزاب أو من خلال عدم القيام بالواجب الانتخابي، يمكن فهمه ضمن سياق نفسي وذهني تونسي، لم يعد قابلاً البتّة للمشهد السياسي العام في بلد يرزح تحت وطأة أزمة اقتصادية خانقة. والأخطر منها هو النسق البطيء جداً في إحداث تحولات جذرية في المسألتين، الاقتصادية والاجتماعية، تغير جوهرياً حياة التونسيين. ولئن كان الأمل لا يزال قائماً في أن يعدل الرئيس قيس سعيّد من وتيرة العمل الحكومي، وأن يدفع نحو حلحلة المشاكل الاقتصادية من خلال تنشيط الدبلوماسية التونسية واستجلاب الاستثمارات الكبرى ذات المردودية الاقتصادية العالية وذات التشغيلية التي تفتح آفاقاً للشباب التونسي، فإن هناك تخوفات مشروعة من حالة الانسداد التي تعيشها البلاد في المستويات كافة، خاصة في ما يتعلق بالأزمات التي تمس حياة المواطنين بشكل يومي ومباشر. وما يعقّد المسألة أكثر هو العلاقة مع الدائنين والمانحين الدوليين، وخاصة العلاقة مع صندوق النقد الدولي.

ما يهمنا هنا هو الحديث عن هذه المؤسسة المالية الدولية، وقرارها تأخير المصادقة على اتفاقية القرض مع تونس، وقد مثّل هذا الحدث مناسبة لمعارضي الرئيس، باعتباره قراراً سيجهز على المالية العمومية المختلة، وسيسّرع سقوط الرئيس، بحسب تفكيرهم، فهم يجهزون أنفسهم منذ 25 يوليو/ تموز 2021 لسقوط قيس سعيد، وأخذ مكانه. فيما يرى آخرون أنّ هذا التأجيل هو فرصة لتونس لتحدد خياراتها الوطنية النابعة من إمكاناتها الحقيقية، والنظر إلى شراكات مع دول صديقة وشقيقة وتجاوز مرحلة التسول على أعتاب صندوق النقد.

«الفتيان الذهبيون»، وهو مصطلح أطلق على نخبة من التونسيين الذين درسوا في الغرب، ويتم ضخهم تدريجياً في ساحة القرار الاقتصادي والمالي والسياسي التونسي، يقولون إنّ «الخروج عن سكة صندوق النقد» هو عملية انتحارية، وإنه من غير المسموح إطلاقاً، مجرد التفكير في هذا الأمر. في حين أنّ آراء أخرى تعتقد أن صندوق النقد ليس قدراً محتوماً. فتونس لم تكن مرتهنة لهذا الصندوق خلال تسعينات القرن الماضي، ومع ذلك، خطت منوالاً تنموياً يعتمد على شراكات استثمارية واسعة مع دول صديقة وشقيقة. أضف إلى ذلك، أن الرئيس سيعّد نفسه، قال من واشنطن معقل القرار المالي الدولي، إن تونس لن تنقذها الأرقام أو إملاءات الإصلاح المفروضة من الخارج. وهذا الذي سمعناه قبل أيام خلال القمة العربية الصينية عندما تحدث «شي» عن أن الصين تحترم الخيارات التنموية الملائمة للظروف الوطنية. ويبدو أن هناك تطابقاً في وجهات النظر، ما يجعل الرئيس سعيّد يصرف النظر عن «القُرَيْضِ» الذي سيمنحه الصندوق لتونس، وهو في الحقيقة ليس سوى فتات لن يسمن، ولن يغني من جوع.

تونس الآن، على ما يبدو، أمام تحول حقيقي وجذري، وهذا يتطلب المسارعة بتقديم مشروعات ضخمة تعرض على الشركاء «الجدد» لتحويلها إلى برامج واقعية قابلة للتنفيذ، وتساهم في تغيير حياة التونسيين. وقد تابعت شهادة الرئيس التركي أردوغان وهو يتحدث عن علاقته بممثلي صندوق النقد، وكيف اضطر إلى قطع العلاقة مع هذا الهيكل المالي، نتيجة إملاءاته التي رآها أردوغان تمس السيادة الوطنية، وتحدث أيضاً عن محاولات الصندوق إقامة لوبيات داخل تركيا تنسق مع المعارضة حتى لا تخرج بلاده من أسر الصندوق. وقد قرأنا سابقاً عن قصص الدول «الناجية» من جحيم صندوق النقد الدولي، وهي كلها الآن تشق طريق التنمية الذاتية بإمكاناتها المحلية، وبشراكات اقتصادية مع قوى دولية متعددة، وشعوبها لم «تضربها» المجاعة، على حد رأي أحد الخبراء المنظّرين للبقاء في حضن صندوق النقد.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/ffadbcn3

عن الكاتب

كاتب صحفي وباحث في قسم الحضارة بجامعة تونس

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"