خطوة أولى إلى الأمام

04:26 صباحا
قراءة 4 دقائق

لعل وصول المرشح الاشتراكي فرنسوا هولاند الى قصر الإليزيه، قد فاجأ كثيرين ومنهم بعض العرب الذين رأوا في سلفه المهزوم ساركوزي نموذجاً للشخصية التي تسهل قراءتها كونه لصيقاً بالإدارة الأمريكية ومحافظاً في كل شيء ما عدا حياته الخاصة . ولدرجة أنه تقرب من اليمين المتطرف بعد أن نالت زعيمة حزب الجبهة الوطنية ماري لوبان أقل بقليل من 18 بالمئة من الأصوات ، بينما الرئيس الجديد يأتي من منطقة مجهولة ، ويقترن بمسمى الاشتراكية وهي صفة غير مستحبة في نظر البعض، رغم أن الاحزاب الاشتراكية الديقراطية ومنها على سبيل المثال حزب العمال البريطاني جزء من نسيج المجتمع السياسي الأوروبي . كل سجل هولاند السياسي ينحصر في كونه نائباً سابقاً، مع سنة خدمة في قصر الإليزيه إبّان عهد الراحل ميتران، ولم يكن خلال سنوات قصيرة خلت من نجوم السياسة الطامحين الى الرئاسة . والبادي أن هولاند صعد محمولاً على تآكل شعبية سلفه الديغولي، بأكثر مما يُعزى صعوده الى جدارة ذاتية مؤكدة، عليه من الآن البرهنة على تمتعه بها، وإن كان ليس هناك في سيرة الرجل ما ينتقص منه . إلا اذا كان عزوفه عن الشعبوية ومخاطبة الغرائز مما يسجل على هذا السياسي الهادىء (58 عاماً) وغير الاستعراضي، الذي يتفادى خوض معارك دونكيشوتية أو جانبية .

في إطار السياسة الدولية لبلاده تتطلع الأنظار لمدى التزامه بسحب قوات بلاده من أفغانستان مع نهاية هذا العام، كما تعهد في حملته الانتخابية . علماً بأن بقاء قوات أجنبية لأمد بعيد في هذا البلد يغذي نزعات الحرب ولا يطفئها، كما تدل خبرة أكثر من ثلاثة عقود منصرمة منذ التورط السوفييتي فيها . وهو أمر إذا تم الالتزام به سوف ينعكس على علاقات باريس وواشنطن، رغم انشغال الأخيرة بالانتخابات الرئاسية .

لقد لاحظ مراقبون كثر أن السياسة الخارجية، لم تحتل حيزاً يذكر في حملات المرشحين الفرنسيين ومنهم المرشح الفائز هولاند . باستثناء المسألة الأوروبية (وهي ليست قضية خارجية تماماً) وأفغانستان، أما بخصوص العالم العربي وإيران فلا شيء طفا على السطح من مواقف جديدة، علماً بأن السياسات تُبنى على المصالح وعلى أخذ مواقف الفرقاء الداخليين في الاعتبار، خاصة أن فرنسا على عتبة انتخابات تشريعية بعد نحو خمسة أسابيع . لكن دعنا نلاحظ أن اللوبي الصهيوني الفرنسي لم يكن متحمساً لهولاند . . ليس لأمر يتعلق بالقضية الفلسطينية، بل لحماسة منافسه المهزوم للتصعيد إزاء طهران بخصوص ملفها النووي ، بينما اتخذ هولاند في حملته موقفاً أكثر تسامحاً تجاه الهجرة وحيال الفرنسيين من أصول إفريقية ومسلمة (بين هؤلاء ملايين العرب من دول شمال إفريقيا . .) فيما اعتمد موقفاً أكثر تشدداً من الأزمة السورية، ولم يمانع في تدخل عسكري تحت غطاء الأمم المتحدة وبدعم أوروبي وأطلسي وعربي . وهو ما لن يكون قابلاً للتطبيق، في الأمد المنظور على الأقل نتيجة الاعتراضات الروسية والصينية، ومعها الحيرة الأمريكية، بما يجعل خطة عنان الوحيدة المتداولة، على الرغم من تباطؤ التحاق بقية المراقبين بمن سبقوهم، وترنح هذه الخطة وعدم تنفيذ أي من بنودها . وعليه يستبعد المرء ما أشاعته بعض أوساط الحزب الاشتراكي (الناطق باسم الحزب آلان أموني) غداة فوز هولاند بأن تغييراً جذرياً مرتقباً ستشهده العلاقات الفرنسية مع الدول العربية من منطلق النظرة الاشتراكية واليسارية لحقوق الإنسان والشعوب . فرغم الصلاحيات التي يتمتع بها الرئيس الفرنسي في مجالي السياسة الخارجية والدفاع في ظل نظام رئاسي، إلا أن عنصر الاستمرارية يظل يطغى على عامل التغيير، في دولة ذات مؤسسات منتخبة ودستورية، وذات علاقات وطيدة مع البيئة الأوروبية والأطلسية . والتغيير حين يتم فإنه يقع في سياق توافقي لا انفرادي، وبالتدريج لا بأسلوب الطفرات . وعلى سبيل المثال فإن الموقف الفرنسي من موجة الربيع العربي يعكس نظرة واقعية تواكب التحولات، بأكثر مما يعبر بالضرورة عن موقف راديكالي يناصر الشعوب . هذا كان حال ساركوزي، أما كيف يضع هولاند بصمته الخاصة على هذا الموقف، فإنه من المبكر التنبؤ بذلك، خاصة إذا ما وضع المرء في الحسبان حق شعب فلسطين في ربيع التحرر، عند هذه المسألة يصبح الموقف أكثر تعقيداً وأدعى للتريث! وفي النتيجة أقرب الى الجمود الذي يُفيد منه المحتلون .

مع كل ما تقدم فإن التغيير في فرنسا يثبت أن اليسار بمختلف تلاوينه ما زال يستقطب الجمهور، وأنه قوة وازنة، وأن ثمة أجيالاً جديدة تلتحق بصفوفه، وقيادات شابة تنبثق منه (اليسار الراديكالي حصد أكثر من 11 بالمئة من الأصوات، ويتربّص باليمين المتطرف . .!) . والمهم هو توفر إرادة الحوار والتواصل مع هذه القوى، وأن يعكف العرب على الانتصار لقضاياهم العادلة، قبل أن ينتظروا الدعم والنصرة من الآخرين، مع تزخيم الصلة الضعيفة بين موجة الربيع العربي، وبين مناهضة الاحتلال الصهيوني للأراضي العربية، فيتلازم النهوض الشعبي ضد الاستبداد والفساد، مع السعي لتحقيق استقلال القرارات العربية عن قوى الهيمنة الدولية .

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

كاتب ومعلق سياسي، قاص وروائي أردني-فلسطيني، يقيم في عمّان وقد أمضى شطرا من حياته في بيروت والكويت، مزاولاً مهنة الصحافة. ترجمت مختارات من قصصه إلى البلغارية والإيطالية والإنجليزية والفرنسية

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"