تحية كبيرة ل«الأستاذ»

03:46 صباحا
قراءة 4 دقائق

محمود الريماوي

محمد حسنين هيكل قيمة كبيرة وقامة عالية، وليس هناك من سياسي أو إعلامي عربي إلا ورأى في الرجل مُلهماً في الكثير من الأمور المهنية. وبوسع كل من يشتغل في السياسة أو الإعلام أن يسرد تجربته الخاصة في قراءة هيكل وتتبع نتاجه والإفادة من تجربته الثرية، وذلك بصرف النظر عن الميول العقائدية والأهواء السياسية لهذا الشخص أو ذاك.
بالنسبة لكاتب هذه الكلمات، فقد تبدى هيكل على الدوام صاحب طاقة إعلامية كبيرة وموهبة غنية في الكتابة الصحفية السياسية، وقد سعى الرجل منذ بواكيره لأن يتجاوز نفسه، فقد كان طموحه المهني بلا حد. وقد نجح في ذلك إلى حد بعيد مستثمراً بصورة حسنة الظروف التي أتيحت له. لقد مزج على سبيل المثال بين كتابة المقال والتحقيق ( الاستطلاع) السياسي. ما جعل مقاله مشبعاً بمادة معرفية تحيط إحاطة شبه شاملة بالموضوع المطروق، مع قدر ملموس من التشويق والترصيع الأدبي. واستطاع بذلك أن يكون نسيج ذاته، فلا ينسج على منوال غيره، وليس بوسع غيره النسج على منواله الذي ابتدعه لذات نفسه الكاتبة. لعل بعض زملاء هيكل في مصر وخارجها عملوا على كتابة مقال في صفحة كاملة من صفحات الصحيفة، لكن أحداً منهم لم يحقق النجاح الذي أصابه هيكل. وربما كان بين الذين نافسوا هيكل الكاتب الراحل أحمد بهاء الدين الذي كان يجمع بين كتابة العمود والمقال السياسي الطويل، فيما لم يُعرف عن هيكل كتابة العمود الصحفي أبداً.
ولا يتعلق الأمر بتقنيات الكتابة الصحفية فقط، فقد حرص هيكل على توسيع دائرة اهتمامه وزاوية نظره لتشمل تاريخ مصر الحديث وتاريخ المنطقة، وكان حريصاً على وضع خلفية تاريخية للصراعات. والمهم في ذلك أنه جمع في إهابه بين الصحفي والمؤرخ، وبصورة أدق فقد وضع المؤرخ في خدمة الصحفي، ما أضفى على كتابته قيمة بحثية غنية ذات مرجعية تاريخية وتميز في ذلك عن أقرانه الصحفيين المصريين والعرب. ومن الملاحظ أن الرجل ولقربه من دائرة صنع القرار في عهد الرئيس الراحل جمال عبدالناصر فقد كان مقاله الأسبوعي «بصراحة» الذي ينشر الجمعة يُذاع في اليوم نفسه كاملاً على أثير إذاعة صوت العرب. وكان للراديو آنذاك حضور قوي في كل البيوت. فلما ظهر التلفزيون فإن هيكل لم يتأخر عن الإطلالة عبر الشاشة الصغيرة. وهكذا فقد كان الرجل يدرك أن وسائل الإعلام البصرية والمسموعة والمقروءة تكمل بعضها بعضاً. وخلال السنوات الخمس عشرة الأخيرة فقد كان حضور هيكل الأكثر إشعاعاً هو عبر التلفزيون وفي أكثر من محطة. وقد جاء حضوره التلفزيوني تعويضاً عن نشاطه الكتابي الذي تقلص دون أن يتوقف بعد أن كتب مقاله الشهير «استئذان في الانصراف» عام 2003 بعدما تجاوز الثمانين من عمره آنذاك.
في مقابلاته وأحاديثه التلفزيونية يتحدث الرجل حديث أهل السياسة وصانعي القرارات، وليس حديثَ مهتم بالسياسة فقط. فيواكب تطورات الأحداث هنا وهناك، ويحدد ما الذي على مصر أن تقرره وتفعله، وواقع الأمر أن صانعي القرارات منذ الراحل عبدالناصر لم يقرّبوه إليهم، فالرجل لا يجامل، واعتداده بنفسه كبير، ويُقدّم نفسه لا على هيئة مستشار، بل كشريك تقريباً في صنع القرار.. أما السبب الأهم لإبعاده والذي لا يتعلق بسمات شخصيته فهو سياسي، إذ ظل الرجل على عداء مقيم للسياسة الخارجية الأمريكية خصوصاً في الشرق الأوسط، ويعتبر العداء لهذه السياسة والافتراق عنها هو المعيار لنجاعة السياسة الخارجية ومصداقاً لوطنيتها واستقلالها، فيما شهدت العلاقة المصرية الأمريكية نمواً مطرداً منذ مطلع سبعينات القرن الماضي إبان حكم أنور السادات حتى أيامنا هذه. وكان يكفي أن تعلن أي دولة في العالم إدانتها للسياسة الأمريكية حتى يمحض هيكل هذه الدولة ثقته ورضاه.
مع تجربته الواسعة العريضة، ومع ما خلفه من عشرات الكتب المطبوعة، فلم يعرف عنه على مدى سبعين عاماً من عمره المهني، ميلاً أو استعداداً للمراجعة أو التصويب أو النقد الذاتي أو أي شيء من هذا القبيل. دروس التجربة الخاصة به، ودروس التطورات السياسية والأحداث التاريخية لم تحمل الرجل على التصويب، وقد نهج في ذلك منهج السياسيين وصانعي القرارات العرب الذين لا يتسلل أي خطأ أو سهو لقراراتهم ورؤاهم. فبينما عمد مؤيدو الناصرية على سبيل المثال إلى نقد تأميم الحياة السياسية والإعلامية وانتشار ظاهرة الاعتقال السياسي في عهد الرجل، فإن هيكل لم يجد شيئاً ذا بال يؤخذ فيه تجربة الحكم الناصري، وقد كان بمثابة وزير إعلام ومستشار سياسي وكاتم أسرار لعبدالناصر.
هناك ما يمكن تسجيله من تحفظات أخرى على بعض ما طبع مسيرة هيكل من مواقف وتوجهات سياسية وخاصة في العقد الأخير من حياته، لكن اللياقات تقضي الانحناء بالتحية والاحترام لصاحب قامة كبيرة أعطى بحق لمهنة الصحافة وبجدارة واقتدار قيمة كبيرة، ورفع من شأن الصحفي المصري والعربي، وكان له بالتالي دوره المشهود في النهضة الإعلامية المصرية والعربية خلال النصف الثاني من القرن الماضي.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

كاتب ومعلق سياسي، قاص وروائي أردني-فلسطيني، يقيم في عمّان وقد أمضى شطرا من حياته في بيروت والكويت، مزاولاً مهنة الصحافة. ترجمت مختارات من قصصه إلى البلغارية والإيطالية والإنجليزية والفرنسية

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"