"نبوءة" الحواسيب

أفق آخر
05:20 صباحا
قراءة دقيقتين

لو تنبأت عرافة قبل نهاية القرن العشرين بسقوط بغداد على النحو الذي أسقطت فيه، أو لو أنها حذرت من الأزمة المالية التي أوشكت أن تقلب كوكباً كالطاولة لما صدقها أحد. لكن هناك بديلاً معاصراً للعرافات وقراء الطوالع، هو المستقبليات كدراسة علمية تبحث في الممكن عن القادم.

وأذكر أن الفلاحين العرب قبل أن تصاب الأرض بهذا التصحر كانوا سباقين إلى مثل هذه الدراسات لكن بالفطرة السليمة فقط، فهم يحزرون الموسم القادم من خلال البراعم التي تنعقد على الأغصان ثم يسألون الله، ويصلون كي لا تهب عاصفة هوجاء تسقط البراعم وبالتالي تجعل الموسم القادم يباباً.

وهناك باحثون تنبأوا بسقوط الاتحاد السوفييتي وتفككه قبل أن يسقط ويفكك، لكن ما من أحد صدقهم، وغالباً ما كانت مقالاتهم تنسب إلى دوائر الرأسمالية ويقال إنهم مأجورون في الحرب الباردة.

إن المستقبل ليس لغزاً أو ورقة يانصيب، فبالامكان توقع ما سوف يحدث فيه، لكن من خلال منهج علمي، لأن المستقبل وفق التعريف المنطقي له، هو حاصل جمع الممكنات، أو البراعم التي كانت ترشد الفلاحين إلى الموسم القادم، فيحددون نفقاتهم في ضوء ذلك.

وما يقابل العاصفة غير المتوقعة لدى الفلاح هو ما يسميه هيجل مكر التاريخ، فأحياناً تكون الطرق ممهدة ومعبدة للوصول إلى مكان ما، لكن كميناً أو فخاً نصب في الطريق يفسد كل شيء. وأذكر أن هناك من سئلوا في الخمسينات من القرن الماضي عن توقعاتهم لعام ،2000 ومنهم من تفاءل إلى الحد الذي صور فيه بداية الألفية الثالثة يوتوبيا محررة من الشقاء والشرور ومن هؤلاء الراحل توفيق الحكيم الذي راهن على تقدم العلم، وتحرر البشر، وتصديق الولايات المتحدة حين رفعت شعارها المعروف عشية الحرب العالمية الثانية وهو تصفية الاستعمار أو مرحلة ما بعد الامبريالية.

ولكي لا نتوقف طويلاً عند ما جرى وهو أمر كبير وجلل، تعرض العالم خلاله إلى تغيرات أكثر من دراماتيكية، وهي أقرب من الانقلابات الكوبرنيكية نسبة إلى الفلكي كوبرنيكس، فثمة صغار كبروا واستطالوا، وكبار شاخوا وتقاعدوا سواء على صعيد الأفراد أو الأحزاب أو الدول.

ومن التوقعات التي أفسدها مكر التاريخ ما كتبه مستشار الأمن القومي الأمريكي الأسبق بريجنسكي عن هيمنة الولايات المتحدة على العالم لثلاثة عقود قادمة، وجاءت أحداث الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول 2001 لتغير حركة السهم حول محيط الدائرة.

وهناك من توقعوا أفول اسرائيل بعد نصف قرن من عمرها، لكن مكر التاريخ أيضاً قدم شيئاً مغايراً، لأن العرافات والحواسيب الماهرة وقراء الطوالع لم يقولوا لنا إن خاتمة العقد الأول من هذا القرن ستشهد صراعاً فلسطينياً دامياً، وإن فوهات البنادق ستخطئ الأهداف، وإن الحجارة سوف تتقاعد وتعود إلى أماكنها في الشوارع والساحات.

وأي حديث عن القادم من الأيام سيكون مجرد هذيان محموم أو تداعيات لا يسندها شيء إذا عزل عن هذه الأسس والمقدمات التي نحياها، فمن يرضع دمية قش عليه ألا ينتظر منها النمو أو الكلام حتى لو أنفق كل ما لديه عليها، ومن يراهن على أن يملأ جراره من عسل الذباب أو البعوض عليه أن يهيّئ نفسه للتيفوئيد أو الكوليرا.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"