عالم آخر يتخلق

02:46 صباحا
قراءة 4 دقائق
حسن العديني
قبل ما يزيد عن ربع القرن انهارت امبراطورية وتبدل العالم. وأظن أن كثيرين حدثوا أنفسهم أو تكلموا مع غيرهم، عما إذا كان القدر كتب حياتهم في لحظة نادرة، وما إذا كان ذلك نوع من الحظ أو ضرب من المأساة، لأن صعود وسقوط الإمبراطوريات لا يأتي في دورات متسارعة، وإذ يشهده جيل أو أكثر فإن أجيالاً عديدة تتعاقب دون أن ترى وتسمع عن حدث من مثل هذا العيار المدوي. يضاف إليه أن تأثيره ينحصر في حدوده الجغرافية، وفي محيطه القريب دون امتداد واسع يشمل الدنيا بأكملها، كما في هذا العصر الذي أصبح فيه العالم قرية كونية. والذين يقرؤون في التاريخ يتوقفون طويلاً أمام مجرى سنوات وحقب الصعود والانهيار، ويجتهدون في رسم صور ذهنية للأحداث في تلك الأزمنة وفي رؤية أحوال الناس ومشاعرهم وانفعالاتهم. أما وأن يعيش المرء ويرى فهو شيء باعث على الذهول.. لقد أتيح لجيلين أو أكثر خلال القرن العشرين أن يروا صعود الاتحاد السوفييتي وأن يشاهدوا سقوطه أيضاً، وفي الحالتين كان الأمر سريعاً، بل لقد وثب الاتحاد السوفييتي من التخلف إلى التقدم ولم يمش الهوينى، وتحول من مجتمع زراعي إلى قوة صناعية جبارة، واستطاع أن يحرز نصراً ساحقاً على النازية في الحرب العالمية الثانية. لكنه بعد عقود قليلة سقط في امتحان الحرب الباردة، أو أنه هزم في حرب لم تلمع فيها السيوف ولم تتحرك البيادق أو تطلق البنادق.
لقد جرت المواجهة بين القطبين عبر السفن التجارية وأوراق البنكنوت، ومن أوجه الحرب الاقتصادية طريقة غريبة استخدمت لتهريب الأموال من الدول الاشتراكية، حيث كان بعض مواطنيها من اليهود خاصة يحرقون مدخراتهم من الدولارات بعد أن يسجلوا أرقامها والبيانات المدونة فيها، ثم تجد هذه البيانات طريقها إلى وكالة الاستخبارات الأمريكية، ومنها إلى البنك الاحتياطي الفيدرالي لتتم إعادة إصدارها وإيداعها في حسابات أصحابها خارج بلدانهم.
المهم أنه بفضل التقدم العلمي المذهل تطورت وسائل وأدوات الحرب وتقاصرت الدورات التاريخية. ومع فارق أن الاتحاد السوفييتي لم يكن قوة استعمارية فإن الامبراطوريات التي انهارت قبله في القرن العشرين عمرت أزمنة أطول، بدءاً من السلطنة العثمانية التي انتهت في الحرب العالمية الأولى حتى فرنسا وبريطانيا التي غابت شموسهما غداة الحرب الثانية.
بالقياس يلاحظ أن عصر الحرب الباردة استمر زمناً أطول من العصر الذي لحقه، فبعد أربعة عقود ونيف من الحرب التي أنهكت السوفييت، ودمرت امبراطوريتهم ابتهج الغرب بانتصار العالم الحر، وكتب مفكرون عن نهاية التاريخ عند حائط الرأسمالية، وبدأ ما أسموه عصر العولمة بما تعنيه من فتح الأبواب أمام البضائع والخدمات والناس، غير أن هذا العصر لم يطل به الأمد، فها هو الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب لا يكتفي بسياسة انعزالية تستدعي أسلافه قبل أن تمد الولايات المتحدة بصرها عبر الأطلسي والباسيفيك بعد الحرب العالمية الأولى، وإنما يذهب فوق ذلك إلى الحماية الجمركية بما يضرب فكرة العولمة في الصميم. وكان البريطانيون قد سبقوه بالانسحاب من الاتحاد الأوربي، ومن قبل فهم لم يتورطوا في التخلي عن الاسترليني واعتماد اليورو لحسابات اقتصادية بالطبع وللولع المعروف عند البريطانيين بالقديم والموروث.
والواقع أن العولمة كانت فكرة مضللة إذ أريد بها تدمير اقتصادات بلدان العالمين الثاني والثالث من خلال إلحاقها بنظام «بريتون وودز» ففرض عليها البنك وصندوق النقد الدوليين سياسات أقصت دور الدولة الراعية لمصلحة السلطة النهابة، فتم بيع القطاع العام لطبقة من النافذين والمرتشين تعيد تدوير الأموال واستثمارها في الدول الغنية حيث إن الأسواق الوطنية لا تتحمل الاستثمارات إلا في مجالات محدودة بعد رفع الدعم عن السلع الأساسية وتحقيق الإفقار المطلق لأغلبية السكان، كما أكرهتها منظمات التجارة العالمية على كسر القيود الجمركية والإضرار بإنتاجها الوطني العاجز عن المنافسة.
وحده هذا الوجه من العولمة وجد طريقه إلى النور. انتقال البضائع والخدمات لإغراق أسواق الدول الأقل نمواً، وأما حركة الناس فإن المأساة مجسدة في المهاجرين غير الشرعيين الذين يعيشون في ظروف غير إنسانية بينما يغرق آخرون في البحر أو يتم إنقاذهم ليعودوا إلى أوطانهم مهتمين بمغامرة أخرى لأن شبح الموت في البحر أخف من هوان العيش في ذل الفقر.
ومن المفارقات أن مؤتمراً للديمقراطيات الناشئة رعته الولايات المتحدة عقد في العاصمة اليمنية صنعاء، ثم تبين أنها كانت ديمقراطيات ناشبة الأظافر، لأن ما يجري في اليمن الآن، كما في بلدان كثيرة، يؤكد أن توليد الديمقراطية على طريقة أطفال الأنابيب لم يكن سوى نكته سخيفة، كما العولمة كانت كذبة كبرى يطيحها قرار من رئيس الدولة الأعظم الذي يفتتح عصراً جديداً سوف يجد من ينحت اسماً له، لكن ملامحه تتشكل بانعطاف حاد نحو اليمين المقيت الذي يدفع بمارين لوبان إلى صدارة المنافسة الرئاسية في فرنسا وتنشط الحروب الصليبية بطرائق جديدة. فكما اخترع الغرب العدو البديل للسوفييت وزع بذرة «القاعدة» و«داعش» في أفغانستان فإنه يعمل بقوة على خلق عدو آخر.
بعد الحرب الباردة وبعد العولمة يبدو أن عالماً جديداً يتخلق. ما مدى عمق هذا التحول ؟ ليس الأمر بادي الوضوح، لكن المؤكد أن حروباً كثيرة ستنشب، وأن الصين التي استفادت من العولمة ستتضرر، ومعها إيران الغارقة في الشوفينية والأحقاد التاريخية.
التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"