أين هي استراتيجية القراءة؟

03:44 صباحا
قراءة 3 دقائق
د. عبدالعزيز المقالح

تشكو أقطارنا العربية والإسلامية بمرارة من غياب أدنى وعي بأهمية الاستراتيجية المطلوبة لإنجاز أي مشروع، صغيراً كان أو كبيراً، وهو ما يضاعف من تراكم حالات التخلف ويقود مجتمعاتنا على كثير من الصعد إلى الأسوأ. وإذا كنت قد تابعت في الأسابيع الأخيرة ما تنشره «الخليج» من كتابات عن القراءة، ودورها في الارتقاء بالإنسان والارتفاع بوعيه الفكري والاجتماعي، فقد اتضح لي من خلال بعض تلك الكتابات أن من أهم أسباب هبوط مستوى الفعل القرائي في حياتنا ما يعود إلى غياب استراتيجية قرائية تأخذ في حسبانها الوقوف عند أبرز العوامل المثبطة على القراءة، ومنها الأمية الضاربة أطنابها في وجودنا العربي والإسلامي، من جهة، وغياب المؤثرات الدافعة إلى تقريب الكتاب من القارئ وتشجيعه على اقتنائه أو قراءته، وكان في مقدور وسائل الإعلام التي صار لنا فيها السبق على سائر الشعوب، أن تفرد مساحة كافية كل يوم للحديث عن الكتب وأهمية القراءة وعلاقتها بتحسين المستوى المادي والمعنوي للمواطن.
ومن بين ما كشفته الكتابات المنشورة في «الخليج» الهوة الواسعة التي تفصلنا عن غيرنا من أبناء العالم المتقدم والمتجدد، وكيف أن القراءة صارت هناك في ذلك العالم جزءاً لا يتجزأ من الحياة ووجبة يومية لا تقل أهمية عن وجبات الطعام، وكيف أن التلفاز من جهة، والصحافة من جهة ثانية، يواكبان الحديث عن الكتاب عامة، وعن الإصدارات الجديدة خاصة، في عروض وملخصات تدفع الناس دفعاً إلى اقتنائها ومتابعتها، يضاف إلى ذلك هذا الحب العميق للقراءة الذي جعلها طقساً شعبياً نشأ واتسع تأثيره مع التربية الأولى في المنزل لترعاه المدرسة بعد ذلك، ويشجع عليه المجتمع، لما للقراءة من دور في رفد المجتمعات بأجيال على درجة عالية من الاستنارة والفهم العالي للمصالح العامة. ولم يكن هذا الذي حدث في ذلك العالم القارئ المتطور صدفة أو ضربة حظ، وإنما كان استجابة لنوع من الاستراتيجيات المرتبطة بالتعليم ومبادئه الوطنية المتكاملة.
أجزم بأن «الخليج» نجحت في حملتها عن مشروع القراءة، ولم يقتصر نجاحها على تركيز الاهتمام بهذا الجانب المفقود في حياتنا وفي ثقافتنا، وإنما في فتح مجال للحوار حول قضية من أخطر قضايانا المتعلقة بإهدار الوقت في أمور صغيرة وثانوية لا تعود على الوطن، ولا على أبنائه أنفسهم بفائدة تذكر. وما يؤسف له في حال كهذه أن أغلبية من حصلوا على التعليم الجامعي توقفوا عند حدود ما تلقوه في الجامعة من معارف ضئيلة، ولم يعودوا - وهم يشكلون نسبة جيدة في واقع المجتمعات العربية - يقتربون من الكتاب أو يبحثون فيه عن مزيد من المعرفة، ولهذا لا لوم على أولئك الباحثين الذين يصنفون هذا النوع من خريجي الجامعات بأنهم يمثلون مرحلة من مراحل الأمية الجديدة، وأن أثرهم في المجتمع يماثل أثر الصِفْر في الشمال، ولأن الشهادة الجامعية ليست في حقيقتها سوى تذكرة أو جواز سفر إلى المعرفة الأعمق والأوثق التي تمنحها القراءة والتواصل الدائم مع الكتاب.
لقد كان الإنسان العربي معذوراً في ما مضى من زمن كان الكتاب فيه معدوماً، والحصول عليه يدخل في خانة المستحيل، أما الآن فقد تغير الحال تماماً بعد أن حققت صناعة الكتاب وتسويقه نجاحاً مبهراً، وامتلأت المدن العربية بالمكتبات الطافحة بالقديم والجديد، وكان المفترض أن يُحدث هذا التحول ثورة قرائية في العالم الثالث، أو بالأصح العالم غير القارئ، لكن الاستقراءات المتعاقبة تثبت أن لاشيء قد تغير، وأن الأمية لم تخسر، بل واصلت الانتشار وتجاوزت المعدلات التي كانت عليها في الماضي القريب. وأنه لا خلاص من هذا الكابوس سوى بالمزيد من التعليم وبالمزيد من القراءة، والتأكيد على أن مقياس التقدم بين الشعوب صار يعتمد على ما نستهلكه من معلومات عبر الكتاب، لا ما نستهلكه من كماليات تذهب إلى براميل القمامة.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"