التجويع لن يؤدي إلى التركيع

03:03 صباحا
قراءة 3 دقائق
حافظ البرغوثي

مر الإعلان عن وقف المساعدات الأمريكية للشعب الفلسطيني بهدوء، من دون أن يحدث ضجيجاً في الأوساط الفلسطينية، خاصة أن الأمر كان معروفاً من قبل، ومهدت له إدارة ترامب منذ تسلمها الحكم وكذلك الكونجرس. وسبب الهدوء أن المساعدات لم تكن ملموسة بقوة؛ حيث كان يجري صرفها ضمن مشاريع بنية تحتية، أو على شكل منح لمؤسسات وشخصيات مقربة من الإدارة الأمريكية والاحتلال ومنظمات المجتمع المدني أو جهات فلسطينية تنشط في مجال التطبيع أو المشاريع المشتركة مع الاحتلال، وقلما صرفت الإدارات الأمريكية منحاً مباشرة إلى السلطة الفلسطينية، باستثناء مبلغ 16 مليون دولار، كان لدعم الأجهزة الأمنية الفلسطينية؛ لأنها تنسق مع الاحتلال، وقد أبقت الإدارة الأمريكية على هذا الدعم، لكن السلطة الفلسطينية أعلنت أنها أوقفت قبوله.
وكان أمين سر اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، صائب عريقات قال، إن رئيس الوزراء الفلسطيني، طلب من الخارجية الأمريكية وقف المساعدات الأمنية المقدمة للأمن الفلسطينيى؛ بهدف «تجنّب التعرض لدعاوى قضائية»، بسبب قانون جديد أقرَّه الكونجرس الأمريكي، لمكافحة ما أسماه بالإرهاب دخل حيز التفعيل يوم الجمعة الماضي، ويمنح القانون أي أمريكي الحق في مقاضاة أية دولة تتلقى دعماً مالياً من الولايات المتحدة أمام القضاء الأمريكي ومطالبتها بالتعويضات. وقد درجت جماعات صهيونية على رفع دعاوى ضد السلطة الفلسطينية، مطالبة بتعويضات ضخمة؛ بسبب مقتل أو جرح مستوطنين في الضفة الغربية يحملون جنسية أمريكية -«إسرائيلية» مزدوجة.
وكان الثالوث اليهودي في البيت الأبيض، وهم جاريد كوشنر وغرينبلات والسفير فريدمان هم من خططوا لوقف المساعدات منذ بداية عهد الرئيس ترامب؛ بحجة أن السلطة تدفع مخصصات شهرية لأسر الشهداء والأسرى، وفي منظورهم يعتبر هذا دعماً للإرهاب. وقد حركوا الكونجرس بهذا الاتجاه أيضاً، فاتخذ قراراً بهذا الخصوص. وأردفوه بقانون آخر يجرم المؤسسات والشركات الأمريكية التي تقاطع «إسرائيل»، وهي سابقة في هذا السياق لم تحدث من قبل.
المساعدات الأمريكية لم تكن إلا ضمن مشاريع تشرف عليها وكالة التنمية الأمريكية، ولا أحد يعرف الحجم الأصلي أو الحقيقي للمساعدات، باستثناء ما كان يقدم للسلطة الفلسطينية مباشرة، وهو متقطع أيضاً، بل إن حجم المساعدات متذبذب بين سنة وأخرى، وفقاً لمزاج البيت الأبيض والكونجرس. وعلى العموم لم يتجاوز الرقم سبعة مليارات دولار على مدى 23 سنة، أي أقل من نصف المساعدات الأمريكية لدولة الاحتلال خلال سنة واحدة، والتي تتجاوز 15 مليار دولار سنوياً، منها أكثر من الثلث مساعدات نقدية وعسكرية، والباقي مساعدات وتبرعات متفرقة معفاة من الضرائب، أو على شكل استثمارات أمريكية في دولة الاحتلال.
ومثلما كان وقف المساعدات الأمريكية لوكالة غوث اللاجئين (الأونروا) بداية لتلبية مطلب «إسرائيلي» بتصفية أعمال الوكالة وشطب قضية اللاجئين تماماً، يبدو قرار وقف المساعدات عن الفلسطينيين عموماً محاولة لإضعاف السلطة وإفقار الشعب الفلسطيني. فقد حاول بعض النواب في الكونجرس تخصيص مبلغ بضعة ملايين دولار، بعد وقف المساعدات لاستكمال بعض المشاريع التي تشرف عليها الوكالة الأمريكية في أريحا وبناء مدرسة، إلا أن كوشنر رفض الطلب، وستظل المشاريع غير كاملة إلى أن تتولى السلطة إكمالها، وكذلك طلبت الخارجية الأمريكية من إحدى الدول العربية عدم تحويل مبلغ عشرة ملايين دولار كانت أقرته الجامعة العربية، وتحاول واشنطن في حملتها هذه الشيءَ نفسه مع دول عربية وأوروبية؛ لتجفيف المساعدات بالكامل. إذ يبدو أن القرار بوقف المساعدات اتخذ عن حقد دفين تجاه الشعب الفلسطيني من مهندسي مؤامرة «صفقة القرن»؛ حيث ظنوا في البدء أن عرض بضعة مليارات على السلطة الفلسطينية كفيل بإقناع الفلسطينيين بعدم معارضة الصفقة، والصمت عن الاعتراف بالقدس عاصمة للاحتلال، لكن الشعب الفلسطيني بقي موحداً ضد الصفقة؛ لأنها تستهدف قضيته ومقدساته. فالسمسرة السياسية التي يمارسها هذا الثالوث الصهيوني الاستيطاني لن تنجح مع الشعب الفلسطيني؛ لأن هناك ما لا يباع وهو الأرض والمقدسات.
إضافة إلى الحصار المالي الأمريكي، أقرت حكومة الاحتلال قانوناً يتيح اقتطاع قرابة ستة ملايين دولار شهرياً من أموال المقاصة الفلسطينية، وهو المبلغ الذي تدفعه السلطة كرواتب لأسر الشهداء والأسرى، في سياق الحملة «الإسرائيلية»- الأمريكية لتجويع الشعب الفلسطيني، وتقويض السلطة، وتمرير صفقة القرن، وقد أبلغت السلطة «إسرائيل» أنها لن تتسلم مستحقاتها من المقاصة، إذا تم اقتطاع مخصصات أسر الشهداء والأسرى، وهذا سينعكس على الوضع الاقتصادي في الضفة، ما سيؤدي إلى انفجار أكثر حدة من غزة؛ نظراً للتداخل بين المستوطنين اليهود والمواطنين الفلسطينيين على الأرض.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"