الإمارات و«دبابات» البابا

04:55 صباحا
قراءة 4 دقائق
عبد الحسين شعبان

الإسلام دين تسامح ورحمة ومعاملة إنسانية، على الرغم من محاولات تشويهه، سواء من جانب الجماعات التكفيرية الإرهابية، أو باتهامه من بعض القوى المتنفّذة في الغرب

«كم دبابة عند بابا الفاتيكان؟»، كان ذلك تعليقاً ساخراً لجوزيف ستالين الزعيم الشيوعي السوفييتي، على خبر نقله له ونستون تشرشل الزعيم البريطاني المحافظ في مؤتمر يالطا (11 فبراير/شباط 1945) عن انضمام البابا إلى الحرب على أدولف هتلر الزعيم الألماني النازي.

استعدتُ ذلك وأنا أتابع زيارة البابا فرنسيس إلى دولة الإمارات العربية المتحدة، وعاصمتها أبوظبي، بدعوة من صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، ولي عهد أبوظبي، نائب القائد الأعلى لقوات المسلحة، وبمشاركة من شيخ الأزهر أحمد الطيب، وهي زيارة تاريخية بكل معنى الكلمة، حيث أقام الحبر الأعظم قدّاساً حضره أكثر من 135 ألفاً من المسيحيين البالغ عددهم أكثر من مليون إنسان في دولة الإمارات، وقام بزيارة أول كنيسة كاثوليكية أنشئت في العام 1965 بهِبة من المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، باني دولة الإمارات، وواضع أسس نهضتها التي قامت على التسامح، والمحبة، والحكمة.

ثمة رسائل راهنة ومستقبلية تبعثها زيارة البابا، لاسيّما لجهة علاقة المسيحيين بالمسلمين لتوطيد العيش الإنساني المشترك، وقيم التسامح والسلام.

أولاها- يولد جميع الناس أحراراً، ومتساوين في الكرامة والحقوق، وقد وهبوا عقلاً وضميراً، وعليهم أن يعاملوا بعضهم بعضاً بروح الإخاء.

وثانيتها- أن القيم الإنسانية هي التي تجمعهم مثل قيم السلام، والتسامح، والمحبة، والإخاء، والمساواة، والعدالة، والشراكة.

وثالثتها- أن بإمكان البشر العيش والعمل معاً في إطار المصالح المشتركة والمنافع المتبادلة، بغض النظر عن دينهم، ولغتهم، ولونهم، وعرقهم، وجنسهم، وأصلهم الاجتماعي.

ورابعتها - أن الأساس في العلاقات بين البشر هو الاحترام المتبادل للخصوصيات، والهويّات، والثقافات.

وخامستها- أن للبشر حقوقاً متبادلة في ممارسة طقوسهم وشعائرهم بحريّة ومن دون إكراه، أو خوف، فالعبادة هي علاقة خاصة بين الإنسان وخالقه، تلك التي ينبغي أن تحترم، وألّا يتم التجاوز عليها تحت أي ذريعة، أو حجة.

جدير بالذكر أن دولة الإمارات العربية المتحدة، وهي دولة مسلمة، تحتضن أكثر من 200 جنسية، وفيها أكثر من 40 كنيسة، ومعابد للسيخ، والبوذيين، كان آخرها المعبد الهندي الذي افتتحه رئيس وزراء الهند نارندرا مودي (العام الماضي- 2018)، وتلك الحقائق تؤكد مجدداً أن الإسلام دين تسامح، ورحمة، ومعاملة إنسانية، على الرغم من محاولات تشويهه، سواء من جانب الجماعات التكفيرية الإرهابية، أو باتهامه من بعض القوى المتنفّذة في الغرب، كدين يحضّ على العنف، ويدعو للإرهاب، ولعل المثل الإماراتي والفضاء الرحب الذي يوفره، يؤكد على قبوله للتنوّع والتعددية، وضمانه لحرية العبادة وحقوقها.

وتترافق زيارة البابا، مع اختيار العام 2019، عاماً للتسامح في الإمارات، بعد أن أُطلق على العام 2018 عام الشيخ زايد، وكانت أبوظبي احتضنت، في ديسمبر/ كانون الأول الماضي 2018، مؤتمراً عالمياً لتعزيز الحوار بين أتباع الأديان، ورفض استغلال الدين في النزاعات والحروب الذي نظمه منتدى تعزيز السلم في المجتمعات المسلمة، وتأتي مشاركة البابا في منتدى حوار الأديان لتأكيد الأخوة الإنسانية، وتواصلاً مع المبادرات العديدة التي قادتها دولة الإمارات.

ولأننا أبناء حضارة عالمية واحدة، وإن كانت الثقافات متعدّدة، ومتنوّعة فيها، فكان لا بدّ من التفكير في مدّ الجسور والقنوات للعيش معاً، وبسلام ومساواة، بغض النظر عن الاختلاف في الدين، أو اللغة، أو العرق، أو الجنس، أو الأصل الاجتماعي، الأمر الذي يقتضي أن نأخذ بعضنا بعضا ً بالتسامح، على حد تعبير فولتير، لأن البشر خطّاؤون. وسيكون نقيض التسامح الاحتراب، والإلغاء، والإقصاء، ومثل هذا سينتج التعصب، ووليده التطرّف، وهذا الأخير يمكن أن يقود إلى العنف والإرهاب.

لقد حظي البابا فرنسيس باحترام المسلمين وتقديرهم، فهو من العالم الثالث أولاً (الأرجنتين)، وقد أدركته الحروب والمآسي التي عاناها العالم، وقد اتسم نهجه بالتسامح والتواصل مع المسلمين، ولعلّ موقفه الإنساني من اللاجئين كان لافتاً، خصوصاً أن القسم الأكبر منهم من البلدان الإسلامية هارب من جحيم الحروب والنزاعات الأهلية، يضاف إلى ذلك موقفه النبيل من مسلمي الروهينجا في بورما.

لقد أخطأ ستالين حين نظر إلى إمكانات دولة الفاتيكان التي لا يتجاوز عدد نفوسها سوى بضع مئات، بمنظار القوة المسلّحة، وأغفل أن هذه الدويلة الصغيرة كبيرة جداً بما تمثله من قوة روحية هائلة، تلك التي سرعان ما تتحوّل إلى قوة مادية تشمل أكثر من ملياري مسيحي، كما أخطأ مرّة أخرى في منظوره للقوة التي احتسبها بالقوة العسكرية، وعدد الفرق، والدبابات، والصواريخ، في حين أن البابا بذاته ولذاته يمثل «قوة روحية» لا مثيل لها، وهي أشد، وأقوى، وأكثر مضاءً من القوة المسلّحة، بل إن أسلحته أكثر فعالية من بين جميع الأسلحة الأوتوماتيكية والذرية والإلكترونية.

ويمكن للبابا بقوة المحبة وروح الخدمة التي يقول عنها «القوة الحقيقية»، أن يحرّك ملايين البشر، ولعلّ ذلك ما أثار اهتمام العالم أجمع الذي تابع مبادرة أبوظبي بشغف وتطلّع لترسيخ قيم التسامح والسلام، لأن عالماً بلا محبة هو بلا سلام، وتلك رسالة كان وجهها صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد لرُسل السلام والمحبة، خصوصاً حين تلتقي إرادة الروحانيين والنخب الفكرية والثقافية مع الإرادة السياسية.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

أكاديمي ومفكر وكاتب عراقي، وهو نائب رئيس جامعة اللاّعنف وحقوق الإنسان (أونور) في بيروت. له مساهمات متميّزة في إطار التجديد والتنوير والحداثة والثقافة والنقد. يهتم بقضايا الديمقراطية وحقوق الإنسان والمجتمع المدني والأديان، والدساتير والقوانين الدولية والنزاعات والحروب. صاحب نحو 70 كتاباً ومؤلفاً.

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"