الاتحاد الأوروبي بعد الجائحة

03:46 صباحا
قراءة 3 دقائق
الحسين الزاوي

تطرح التطورات المتسارعة بشأن الجائحة غير المسبوقة التي يشهدها العالم، أسئلة جدية في ما يخص مستقبل الاتحاد الأوروبي في مرحلة ما بعد نهاية هذه الأزمة الصحية. صحيح أن العالم ما بعد الفيروس التاجي سيكون مختلفاً عما قبله بالنسبة لكل الدول في العالم، لكن المشهد في القارة العجوز سيكون أكثر إثارة للاهتمام نتيجة لأسباب عديدة، في مقدمتها تحوّل أوروبا إلى بؤرة رئيسية لتفشي المرض بداية من 13 مارس الماضي، وسقوط العدد الأكبر من الضحايا في بلدانها، وتصاعد الخلافات بين دول الاتحاد خاصة بين شمال القارة وجنوبها في ما يتعلق بالإجراءات المالية الواجب اتخاذها، من أجل إنقاذ دول باتت تقف على حافة الانهيار مثل إيطاليا وإسبانيا.
ويبدو الحديث في هذا السياق، عن أزمة حقيقية داخل الاتحاد الأوروبي من باب تحصيل الحاصل، فبعد أن كانت تسعى بروكسل إلى إعادة رصِّ صفوفها من أجل تجاوز تداعيات «بريكست» البريطاني، جاءت الجائحة لتدفع بالوضعية نحو مزيد من التعقيد، ولتجعل الاتفاقيات الظرفية التي تُبرم أثناء اجتماعات قادة الاتحاد مجرد مسكنات لأزمة بنيوية عميقة ترتبط بتصاعد الخلافات بين دول الشمال، بقيادة ألمانيا وهولندا، ودول الجنوب بقيادة فرنسا وإيطاليا، بشأن الفلسفة الاقتصادية للاتحاد، فضلاً عن الخلاف التقليدي الموجود بين شرق القارة وغربها، والذي يتجاوز الأسباب الاقتصادية نحو مبررات ثقافية وحضارية أكثر تعقيداً.
لقد أسهمت الجائحة في تعرية الأوضاع في أوروبا بشكل غير مسبوق، واتضح بداية من الأسابيع الأولى من تفشي الفيروس القاتل، أن مؤسسات الاتحاد هشة وغير قادرة على التصدي للخلافات المتنامية بين الدول الأعضاء.
فقد لجأت دول مثل سلوفينيا في الأيام الأولى من الأزمة، إلى إغلاق حدودها دون استشارة جيرانها، ووجد عمال أوروبيون يتنقلون عبر الحدود الفاصلة ما بين ألمانيا وفرنسا، وما بين فرنسا وإسبانيا، أنفسهم محاصرين بعد تضييق الحركة وتشديد إجراءات المراقبة على مستوى الحدود، وعملت أغلبية الدول على منع تصدير المستلزمات الطبية نحو جيرانها، لاسيما ألمانيا وفرنسا اللتان يُنظر إليهما بوصفهما المحرِّك الأساسي لقاطرة الاتحاد الأوروبي.
كما أن مظاهر الفرقة والسلوكيات غير الودية بين دول المجموعة اتسعت بشكل غير مسبوق أثناء هذه الجائحة، حيث تعاملت دول من شرق أوروبا مع الإيطاليين وكأنهم أشخاص غير مرغوب فيهم، وقامت الجمارك التشيكية بالاستيلاء على شحنة مواد طبية كانت موجهة إلى إيطاليا، وجرى توزيعها على مستشفيات البلاد، وحاول وزير الداخلية التشيكي أن يبرّر هذا الفعل.
وبالتالي، فإن هذه الأزمة وعوض أن ترسِّخ خيار الحدود المفتوحة بين دول أوروبا، فإنها جعلت الحدود القومية أكثر رسوخاً.
استطاع الاتحاد الأوروبي في مراحل سابقة، أن يتجاوز مشكلة ديون اليونان سنة 2010 التي كادت أن تعصف بوحدته، بسبب تصلب مواقف المستشارة الألمانية بشأن إشكالية عجز الميزانية، وتمكن أيضاً من تفكيك القنبلة الموقوتة التي كادت أن تنفجر بين أيدي دوله بشأن أزمة المهاجرين التي اتخذت أبعاداً خطرة بين فرنسا وإيطاليا، لاسيما وأن إيطاليا وجدت نفسها خلال السنوات الماضية، تواجه لوحدها أزمة غير مسبوقة نتيجة تدفق المهاجرين إلى أراضيها، بيد أن الوضع الآن يبدو مختلفاً وأكثر خطورة.
وعلاوة على كل التحديات التي يواجهها الاتحاد الأوروبي من أجل تسيير مؤسساته في عز انتشار الجائحة، فإن الحالة الإيطالية تبدو أكثر إحراجاً بالنسبة لبروكسل. فقد اتهمت روما الاتحاد بالتقصير في مساعدتها وتركها تواجه مصيرها منفردة، وتفاعلت الأزمة ما بين الجانبين بشكل غير مسبوق على المستويين الشعبي والرسمي، خاصة بعد المساعدات التي قدمتها الصين وروسيا وكوبا لروما، ووصل الأمر إلى حد حرق بعض الإيطاليين علم الاتحاد الأوروبي، ونشر ذلك عبر فضاءات التواصل الاجتماعي.
صفوة القول إن الاتحاد الأوروبي على الرغم من كل المحاولات الترقيعية الهادفة إلى إنقاذه من التفكك، فإنه وبعد تجربة «بريكست»، وفاجعة الجائحة، لن يتمكن من مواصلة مسيرته الإدماجية، في ظرف دولي عاصف بات يتحدث فيه قادة دول أوروبية عن ضرورة استعادة السيادة الاقتصادية والصحية لدولهم؛ لأن الاتحاد بالنسبة لهم هو خيار جيوسياسي لا وجودي، خاصة في هذه المرحلة التي تجلت فيها أنانية الدول بشكل قبيح ورفعت فيها دول كثيرة، جهاراً نهاراً، شعار: «أنا ومن بعدي الطوفان».

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

أستاذ الفلسفة في جامعة وهران الجزائرية، باحث ومترجم ومهتم بالشأن السياسي، له العديد من الأبحاث المنشورة في المجلات والدوريات الفكرية، ويمتلك مؤلفات شخصية فضلا عن مساهمته في تأليف العديد من الكتب الجماعية الصادرة في الجزائر ومصر ولبنان

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"