جوهر الخلاف وثقافة الاختلاف

04:33 صباحا
قراءة 5 دقائق

أما جوهر الخلاف فهو بين الاستبداد والحرية، بين الفساد والنقاء، بين القهر والانطلاق إنها مسافة طويلة تضع حداً لعصر بكامله وتفتح أبواب الأمل أمام شعبٍ كان يقول ما يريد والنظام القائم يفعل ما يشاء! لذلك كتبت شخصياً سلسلة من المقالات على امتداد السنوات الماضية تدور حول مفهوم الثقافة كسلوك إنساني قبل أن تكون نسقاً حضارياً أو نظاماً للقيم والتقاليد، فكتبت عن (ثقافة الاختلاف) و(ثقافة الاعتذار) و(ثقافة الصدق) و(ثقافة التجويد) و(ثقافة الصيانة) وغيرها، وأردت من ذلك كله أن ألفت النظر إلى المعاناة النفسية الجاثمة على الصدور، والخوف الذي يملأ القلوب، والفساد الناتج عن الزواج بين السلطة والثروة، والتطرف الناجم عن الفهم السطحي للعقيدة الدينية واتخاذها مبرراً لتحقيق سياساتٍ ومصالح على حساب العلاقة بين الإنسان وخالقه وتطويعها لخدمة أهداف ذاتية ومآرب حزبية .

وها نحن اليوم نكتب عن ذلك الخلاف الجوهري الذي يفصل بين عهدين ويعني ميلاداً جديداً للأمة المصرية كجزء من عالمها العربي والإسلامي والإفريقي، فلقد جرى انتزاع مصر من بيئتها الطبيعية في ظل فهمٍ مغلوط يخلط بين التحديث والتغريب عندما تصور البعض أن الحداثة هي وافدٌ غربي، وأن التراث ركامٌ شرقي، ولم يدرك ذلك البعض أن ثقافة الشعوب هي المفتاح الحقيقي للدخول في دولة عصرية وولوج عالم متغير تتضارب فيه المصالح وتحتدم الصراعات وتعاني المجتمعات، ولنا في الهند الحديثة مثال حي للنهضة القائمة على الموروث الذاتي من دون مساس بالشخصية القومية أو الهوية الوطنية ولكن انطلاقاً من نسق القيم وتراث المجتمع مهما كانت الاختلافات أو احتدمت الخلافات .

لذلك أضحى العامل الثقافي هو الذي يتصدر في العقود الأخيرة المسيرة البشرية كلها، حتى وجدنا أن الأفكار الكبرى التي سيطرت على العالم في العقدين الأخيرين هي العولمة وصراع الحضارات والإسلام السياسي وما يسمى بالحرب على الإرهاب وكلها قضايا ثقافية بالدرجة الأولى تعبر عن الاختلافات النمطية بين البشر، وترتبط بواقع محدد له أسبابه وتداعياته، لذلك أضحت الدبلوماسية الثقافية هي رأس الحربة في اقتحام الحضارات والقوميات، بل وفهم الديانات، لذلك فإنني ألفت النظر إلى العناصر التالية:

* أولاً: إن التنميط والتنوع والتعددية هي سماتٌ بشرية فطر الله عليها مخلوقاته من أجل حياةٍ متكاملة ومتجانسة، لذلك قال الاقتصاديون وخبراء السوق (لو اتحدت الأذواق لبارت السلع) وقال المثل الشعبي المصري بحكمته البالغة (لكل فولة كيال)، وهذا التنميط والتعدد يغري بفهم خاص لفلسفة الكون وحكمة الخالق وروعة الوجود، وليس ذلك كلاماً مرسلاً بقدر ماهو تعبيرٌ عن الحقيقة الكامنة في النفس البشرية التي تستجيب في النهاية لعظمة الذات الإلهية .

* ثانياً: إن الخلاف عندما ينجم عن الاختلاف فإنه يعبر عن الفهم الضيق للطبيعة البشرية والانحياز العنصري المقيت لجنسٍ أو لونٍ أو دين، بينما الحياة في مجملها صراع متواصل ومصالح متضاربة ورؤى مختلفة، ولكنها تحقق في النهاية منظومة متكاملة ومعزوفة متجانسة ولحناً واحداً للوجود بلا خلود .

* ثالثاً: إن ثقافة الاختلاف لا يجب أن تؤدي بالضرورة إلى احتدام الخلاف، فلو أخذنا المواطنة كمثال لوجدنا أنها تقوم على المساواة في المراكز القانونية والحقوق السياسية بين المختلفين، فهذا مسيحي وذاك مسلم وهذا غني وذاك فقير وهذا رجل وتلك امرأة وهذا شيخ عجوز وذلك شاب يافع ولكنهم يعيشون جميعاً تحت مظلة الإنسان الواحد الذي يصبح مواطناً في دولة عصرية تحترم حق الاختلاف وتؤمن بالأنماط والأصول والأعراق والتقاليد والأعراف ولا تعترف بالتمييز بين أبناء الوطن الواحد ولا التهميش لفئاتٍ معينة، وتدرك أن البشر جميعاً ولدوا أحراراً فلم نسمع عن طفلٍ وليد هبط إلى الوجود مقيد اليدين، فالحرية هي قرينة الحياة وهي أيضاً منحة الإله .

* رابعاً: عندما قامت ثورة 25 يناير لم نحسن جيداً استثمار نتائجها أو حتى استخدام مظاهرها، وإذا كانت الثورات تستخرج من الشعوب أفضل ما فيها على المدى الطويل فإنها يمكن أيضاً أن تدفع لأسوأ ما لديها على المدى القصير، فلقد سقطت الأقنعة وطفت الأحقاد على السطح وأصبحنا أمام مشهد عبثي هو رد فعلٍ لسنوات القهر والمعاناة وعقود الفساد والاستبداد، ويبقى السؤال المهم مطروحاً، كيف للشعب المصري أن يخرج من نفق الانتقام المظلم وتصفية الحسابات الدفينة والسقوط في مستنقع الإقصاء بلا سبب والاستبعاد من دون وعي، وحرمان الوطن من أفضل كفاءاته ومن تراكم خبراته؟ وكأن الدنيا لم تعرف قبل الخامس والعشرين من يناير كلمة حق واحدة ولا رأياً شجاعاً حتى ولو كان خائفاً! إنني أقول بصراحة لشباب الثورة، نظموا صفوفكم واتركوا روح الانتقام للسلطة القضائية وإجراءاتها الاحترازية، ولنتجه جميعاً نحو بناء مصر التي دمرتها عناصر فاسدة، والتهمت خيراتها مجموعات طفيلية، وصادرت مستقبلها عقولٌ ضيقة ونفوسٌ طامعة لم تدرك أبداً أن الأفراد زائلون وأن الأوطان باقية، ونحن نلفت النظر هنا إلى حقيقة تاريخية، وهي أن الثورات الشعبية ترسي قواعد العدل الإنساني والعدالة الاجتماعية، وتحترم الرأي الآخر وتتصرف بعيداً عن روح الديكتاتورية وطبائع الاستبداد، فلا تصادر فكر الناس باسم الثورة، ولا تجري تصنيفاً بينهم تحت دعوى الولاء لها، أو تستبعد البعض لأنه تعامل مع نظامٍ جثم على صدر الوطن ثلاثة عقود كاملة وليست ثلاث سنواتٍ عابرة .

* خامساً: متى نرتفع، نحن أبناء الوطن الواحد، بعيداً عن اختلافاتنا، بل وفوق خلافنا من أجل مستقبل أفضل، مدركين أن العبرة في المواطن الصالح هو عطاؤه للوطن، حتى ولو جرى ذلك تحت مظلة نظام فاسد؟ فالحذر صفة بشرية، والخوف طبيعة إنسانية وليس كل مواطن بالضرورة ثائراً من أجل المستقبل، بل قد يكون إصلاحياً من أجل الأفضل، والاثنان يصبان في هدفٍ واحد وغاية مشتركة، وإن اختلفت الوسائل وتباينت الأساليب، كما أن لغة الحوار هي من لزوميات الوصول إلى قناعة حقيقية تتميز بالرسوخ والدوام، أما العبارات الجارحة والألفاظ النابية والنظرات الغاضبة فإنها ترتد إلى أصحابها، وتسيء إلى الوطن وأبنائه، وتشوه صورته أمام الأصدقاء والأعداء على السواء .

هذه عناصر حاكمة لفهم العلاقة الارتباطية بين جوهر الخلاف وثقافة الاختلاف في ظل ظروفنا الراهنة بعد الثورة الشعبية المصرية التي بهرت العالم، وشدت الأنظار، ووضعت مصر في مكانتها الدولية والإقليمية التي تعارفت عليها الأمم والشعوب، ولكننا على ما يبدو لا نريد أن نحافظ على هذه الصورة المبهرة بفعل الأحداث الطائشة والتصرفات غير المسؤولة والأفكار الجامدة والنفوس غير القادرة على صياغة المستقبل بآفاقه البعيدة . بدلاً من الارتباط بالماضي بواقعه الأليم، دعونا نفكر إيجابياً ولا ننحدر سلبياً، دعونا نحقق الأحلام بدلاً من الاستغراق في الأوهام .

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دبلوماسي وباحث وأديب ومفكر ومؤرخ وكاتب، يمتلك خبرة واسعة في المجالات السياسية والثقافية ألَّف 36 كتابًا تسلط الضوء على بعض القضايا مثل الإصلاح السياسي والفكري القضاء على كل أشكال التمييز ضد الأقليات، والوحدة العربية والتضامن

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"