هيلاري بائعة الكلام

02:19 صباحا
قراءة 4 دقائق
عاصم عبدالخالق

في زمن الحكمة والتأمل اعتبر الأقدمون أن السكوت من ذهب إذا كان الكلام من فضة، أما في عصر الاستهلاك الأمريكي فلكل شي ثمنه، حتى الكلمات يقدرونها بالمال وقد تساوي أكثر بكثير من الذهب. في قلعة الرأسمالية العالمية تتحول الكلمات مباشرة إلى دولارات يجنيها المتحدثون الذين تزيد تسعيرة كلماتهم كلما اتسعت شهرة المتكلم.

وفي السياسة كما في الرياضة والفن أو أي مجال آخر، كل المشاهير والنجوم يتحدثون، وكلهم يتقاضون الثمن. ولذلك فإن هيلاري كلينتون التي تطمح أن تصبح أول رئيسة للولايات المتحدة لا تمثل استثناء في هذا الإطار. كلما تحدثت هذه السيدة الشهيرة كلما تضخم رصيدها في البنك.
والأرقام التي نشرتها قبل أسبوع مجلة «تايم» الأمريكية توضح أن شهية هيلاري مفتوحة دائماً للحديث، وحساباتها المصرفية متخمة. وخلال عام 2014 وهو أول عام كامل تقضيه بلا منصب رسمي، بعد انتهاء عملها وزيرة للخارجية، ألقت هيلاري 45 محاضرة وخطاب تقاضت مقابلها 10,2 مليون دولار (عشرة ملايين ومئتي ألف دولار) وهو الرقم الذي سجلته بنفسها في إقرارها المالي الذي يحمل توقيعها بتاريخ 15 مايو/أيار الماضي.
قبل الخوض في تفاصيل رحلة هيلاري الحالية مع الثروة أو صفقة «المحاضرات مقابل الدولارات» نشير أولاً إلى أن تقاضي المشاهير، بمن فيهم السياسيون، أموالاً نظير إلقاء خطابات أو كتابة مذكرات شخصية هي عملية قانونية تماماً في الولايات المتحدة، وعادة ما تجلب لصاحبها ثروة لا بأس بها بعد أن يترك منصبه. على سبيل المثال فإن زوجها الرئيس السباق بيل كلينتون كسب 82,8 مليون دولار من إلقاء خطابات منذ ترك منصبه في 2001. 
وتتفاوت بالطبع حظوظ المسؤولين السابقين، فمثلاً لم تحصل كوندوليزا رايس وزيرة الخارجية التي سبقت هيلاري مباشرة في المنصب سوى على 150 ألف دولار فقط مقابل بعض خطاباتها منذ تركت منصبها. 
الإشارة المهمة الأخرى هنا تتعلق بقضية المال السياسي في الولايات المتحدة، ونعني به التبرعات التي يغدقها رجال الأعمال الكبار، والشركات الضخمة، وأصحاب المصالح وغيرهم، لتمويل الحملات الانتخابية للمرشحين سواء للرئاسة أو الكونغرس. هذه التبرعات بدورها معترف بها قانوناً. وتوجد تشريعات واضحة تنظمها وتراقبها وترصد أوجه إنفاقها. وهذه التبرعات هي جزء أساسي في الحياة السياسية الأمريكية.

ومن خلال معرفة طبيعة وتوجهات وأهداف المتبرعين يمكن الحكم على توجهات هذا المرشح أو ذاك، لأن المتبرع لن يدعم مرشحاً يخاصم توجهاته أو يتبنى سياسات لا تروق لصاحب المال. ومن هنا يلعب المانحون الأثرياء دوراً مباشراً وأساسياً، ليس فقط في نجاح المرشحين، ولكن أيضاً في تحديد السياسات التي يريدون إقرارها. وهذا هو المقصود بالقول الشائع إن المال هو الذي يحكم أمريكا في النهاية.
وفي حالة هيلاري حرصت مجلة «التايم» على تتبع الممولين الرئيسيين لها مبكراً. وأول ما توقفت عنده كانت أسماء الشركات التي تدفع لها مقابل إلقاء خطابات، وهي شركات التكنولوجيا والصناعات الكبرى. ومن بين مبلغ العشرة ملايين دولار تقريباً التي تقاضتها لإلقاء خطاباتها هناك 4,6 مليون دولار دفعتها شركات ومنظمات تتعامل مع جماعات ضغط (لوبي) بهدف تشكيل وبلورة سياسيات تتوافق مع مصالحها في قضايا مثل الضرائب والسياسات التجارية والنظم المالية والرعاية الصحية.
بمعنى أن الرئيسة المحتملة هيلاري كلينتون تتبنى وجهة نظر هذه الشركات التي تدفع لها مباشرة. وتلك الشركات للعلم دفعت 72,5 مليون دولار خلال العام الماضي لجماعات الضغط الرسمية لتمرير وإقرار السياسات التي تريدها.
أما أهم الممولين لخطابات هيلاري خلال 2014 وحتى مايو/أيار الماضي فتتصدرهم «منظمة الصناعات الحيوية» التي دفعت لها 335 ألفاً و500 دولار، بينما أنفقت على جماعات الضغط (وهذا أيضاً من أنواع التمويل السياسي مثل الدفع لخطابات هيلاري) عشرة ملايين و186 ألف دولار خلال 2014 فقط.
هناك أيضاً شركة التكنولوجيا «كوالكوم» التي دفعت للمرشحة الشهيرة 125 ألف دولار نظير إلقاء خطاب واحد، إضافة إلى 50 ألفاً و250 دولاراً لتمويل الحملة الانتخابية لها والمعروفة باسم «مستعدون لكينتون».

بينما كانت شركة «سيلزفورس دوت كوم» أكثر سخاء ودفعت لها 451 ألف دولار للحديث أمام الشركة مرتين. ودفعت لحملتها الانتخابية 55 ألفاً و250 دولاراً. ومن الممولين الكبار كذلك شركة سيسكو للتكنولوجيا ودفعت لهيلاري 325 ألف دولار لقاء خطاب واحد.

ومن الملاحظات المهمة هنا أن الشركات الثلاث الأخيرة من أكبر الداعمين لمشروع تجاري ضخم هو «الشراكة عبر المحيط الهادي»، والذي كانت هيلاري قد أيدته من قبل، إلا أنها لم تبد رأياً كمرشحة رئاسية محتملة. وإجمالاً فإن الجماعات والمنظمات المؤيدة للتوسع التجاري الخارجي أنفقت ثلاثة ملايين دولار للاستماع إلى كلمات هيلاري كلينتون.

كل هذا يلقي الضوء مجدداً على التداخل الوطيد بين المال والسياسة في الولايات المتحدة، وكيفية صناعة الرئيس هناك. وهي صناعة تكاد تحتكرها الشركات الكبرى والمليارديرات. وقواعد اللعبة السياسية في هذا الصدد معروفة تماماً: من يستطيع أن يجمع أموالاً أكثر يكون الفائز الأرجح، لأنه سيكون بمقدوره تنظيم حملات دعائية أكبر والإنفاق على جيوش من الخبراء الإعلاميين والمستشارين السياسيين، وعقد مؤتمرات انتخابية أكثر. إنها صناعة ضخمة وقودها المال. وليس هناك مجال ولا مكان للفقراء. ففي قلعة الرأسمالية المناصب الكبرى محجوزة دائماً للأثرياء أو من يرضى عنهم الأثرياء، والفقراء يمتنعون.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"