التاريخ لن يعود إلى الوراء

02:48 صباحا
قراءة 3 دقائق
محمود حسونة

ما أشبه الليلة بالبارحة، فمن تابع مسلسل «ممالك النار» الذي عرضته شبكة قنوات «إم بي سي» مؤخراً، يُدرك أن حقبة من التاريخ قد عادت، وأن المشاهد التي تجسد أحداثاً وقعت بالأمس، ليست سوى مشاهد من الواقع المعاصر، وأن ما فعله ابن عثمان سليم الأول، هو ما يفعله أحفاده أو بالأحرى حفيده الذي يسعى إلى استعادة «أمجاد» أجداده.. فالمطامع ذاتها، والهدف نفسه، ولعل الاختلافات فقط تكمن في الأزياء وأدوات الحرب والسطو على أراضي الغير ونهب خيراتهم وقتل رجالهم وسبي نسائهم.
سليم الأول صنع مجداً للعثمانيين بالنار والدم، والحفيد يسعى إلى استعادة هذا «المجد» بالنار والدم أيضاً. السلطان الذي لن يغفر له التاريخ ما ارتكبه، أحيا سيرته اليوم حفيد يستحل لنفسه الاحتلال والسطو ومطاردة الآمنين في بيوتهم.
وإذا كان الجد قد سفك الدماء واستولى على الجيران وجيران الجيران طمعاً في سلطة تمتد على أكبر بقعة على الأرض، وسعياً للحصول على الذهب والفضة والتراث، فإن الحفيد امتدت أياديه بعيداً جداً عن حدوده، طمعاً في الغاز والنفط والمياه والخيرات التي لا تقل قيمة عن ذهب وموروث العرب والمسلمين الذي سطا عليه سليم الأول وجنوده الانكشاريين، ونقله إلى إسطنبول.
سطا العثمانيون الأوائل على موروث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصحابته وأهله، من سيوف ودروع ومقتنيات مختلفة ولا تزال موجودة في إسطنبول، ويتفاخر بها أحفادهم، وهي الشاهد على أنهم كانوا أهل بغي وعدوان وليسوا كما يردّدون هم وزبانيتهم ممن يرون فيهم منذ بداياتهم وحتى اليوم، «حماة للإسلام».
غزا سليم الأول الأوطان وقتل البشر، واعتدى على الحجر، وأهان التراث بدعوى حماية المقدسات والإسلام، وتبعه بشكل أعمى المهووسون بتجار الدين، وخانوا أوطانهم وتخلوا عن أهلهم، وهو الطريق نفسه الذي ينهجه حفيد أبناء عثمان الذي يروّج أنه حريص على إحياء دولة الخلافة خدمة للإسلام، ويتبعه في ذلك الجماعات الطامحة للسلطة وعصابات الإرهاب باسم الإسلام، وهو منهم براء.
الجد سليم والحفيد أردوغان تجمعهما كثير من نقاط التلاقي، وكأنهما جد وحفيد في الدم والنسب، فالأول انقلب على والده وقتله ثم قتل إخوته وأولادهم سيراً على نهج جده محمد الفاتح الذي استصدر فتوى تبيح للسلطان قتل أشقائه وأولادهم حفاظاً على مكانته، أما الثاني فقد انقلب مبكراً على أستاذه ومعلمه نجم الدين أربكان، بعد أن بدأ يسطع نجمه ومنذ أن كان عمدة لإسطنبول، كما انقلب على «أشقائه» في الحزب والسياسة، ورفقائه في رحلة الصعود إلى السلطة، وعلى رأس هؤلاء عبدالله جول الرئيس السابق، وأحمد داوود أوغلو مهندس حزب التنمية والعدالة ورئيس الوزراء الأسبق؛ منظر سياسة «صفر مشاكل» عندما كان وزيراً للخارجية، وأيضاً من ضحاياه «الرفيق» علي باباجان نائب رئيس الوزراء، وزير الخارجية الأسبق. ومثلما طارد سليم إخوته وتخلص منهم، فإن أردوغان تخلص من رفاقه ومازال يطاردهم، وإن كانت المعركة مازالت مشتعلة، وستكشف الأيام عن المنتصر في النهاية.
سليم الأول «تسلطن» على دم والده وأشقائه وأصبح خاقان البرين والبحرين وخليفة المسلمين، وأردوغان لم يُشبعه أن يكون رئيساً للوزراء في ظل نظام برلماني، فغيّر الدستور ليصبح رئيساً بصلاحيات لم تمنح لأحد قبله سوى سلاطين آل عثمان، ولا زال يحلم أن «يتسلطن» ويصبح خليفة للمسلمين.
الجد غزا ديار العرب والإسلام منتصراً في مرج دابق على قنصوة الغوري وفي الريدانية على طومان باي، بفضل جماعات العبث بالدين (الجهاردة)، والخونة من أمثال خاير بك وغيره، والحفيد لم ولن ينتصر وخسائره تتوالى على الرغم مما يحيط نفسه به من خونة الإسلام والعروبة، الذين فتح لهم أبواب تركيا ليقيموا تحت إمرته، بعد أن لفظتهم شعوبهم، وانكشفت خياناتهم أمام الرأي العام بعد خداعه باسم الدين أكثر من 80 عاماً.
الغريب أن بلاد العرب كرمت سليم الأول وأطلقت اسمه على شوارع فيها، ووصفت غزوه لها في كتب التاريخ بالفتح، وشتان ما بين الفتح والغزو، وبعد عودة الوعي أزيل اسمه من على شارع مهم في القاهرة، ونأمل أن يعاد النظر في كتب التاريخ، بينما لا زالت بعض الدول العربية تكرم الحفيد وتعتبره المنقذ والأمل.
التاريخ عاد على الشاشة فقط ليذكرنا، ولكنه لن يعود في الواقع، وستظل طموحات الحفيد مجرد أضغاث أحلام، فالزمن لا يرجع إلى الوراء.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

كاتب صحفي، بدأ مسيرته المهنية عام 1983 في صحيفة الأهرام المصرية، وساهم انطلاقة إصداراتها. استطاع أن يترك بصمته في الصحافة الإماراتية حيث عمل في جريدة الاتحاد، ومن ثم في جريدة الخليج عام 2002، وفي 2014 تم تعيينه مديراً لتحرير. ليقرر العودة إلى بيته الأول " الأهرام" عام 2019

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"