استشراف المستقبل العربي على المحك

03:13 صباحا
قراءة 3 دقائق
د. علي محمد فخرو

بعد كل حدث في بلاد العرب ينبري المعلّقون والمحاورون من رجالات ونساء الإعلام العربي ، المرئي والمسموع، لاستدعاء من يسمّونهم بالمتخصصين والمحلّلين والمفكرين في شتى حقول الاختصاص ، والطلب منهم بثقة واطمئنان لاستشراف مستقبل هذا الحدث والقوى التي تصنعه أو مجتمع ذلك الحدث والدولة التي تواجهه.
ولكثرة تكالب المحن والإحن على أمة العرب في السنين الأخيرة، وعلى الأخص منذ انفجار الحراكات والثورات الشعبية في العديد من أقطار الوطن العربي، أصبحت أسئلة استشراف المستقبل شبه يومية وبأساليب روتينيه مملّة ، وأحياناً مضحكة.
والأغرب من الأسئلة التي تطرح هي الإجابات الواثقة القطعية المليئة بالإدعاء العلمي والنزاهة الموضوعية. ويشعر الإنسان أحياناً بأننا في صف مدرسي روتيني، حيث الأستاذ يحاضر ويلقن والتلامذة يستمعون ولا يتساءلون.
ولكن هل موضوع استشراف المستقبل، بالنسبة للبشر والاجتماع الإنساني وسيرورة التاريخ، هو بهذه البساطة؟
هل حقاً أنه محكوم بالحتمية التي تميز العلوم الطبيعية مثل الفيزياء والكيمياء على سبيل المثال؟
لوكان الأمر كذلك فلماذا ، إذن، فشل أخصّائيو ومحلّلو ومفكّرو الاقتصاد، عبرالعالم كله، والمرة تلو المرّة، فشلوا بالتنبؤ بحتمية حدوث الأزمات المالية والاقتصادية الحادة التي اجتاحت العالم، وأحياناً بعض الدول، إبان الخمسين سنة الماضية؟ ولماذا فشل أمثالهم في حقل الفكر السياسي من التنبؤ بالكثير من الأحداث والأزمات والمفاجآت السياسية التي اجتاحت العالم في السنين الأخيرة، بما فيها أحداث ما يوصف بالربيع العربي؟
الجواب ، الذي لايوضّح بما فيه الكفاية ، ولاينشر بين الناس بما يكفي، هو أن استشراف المستقبل، مثله مثل ما يعرف بعلم الاقتصاد أو علم السياسة والكثير من العلوم الاجتماعية المتعدّدة الأسماء ، لايزال مليئاً بعدم التأكّد واللايقينية، وبالخيال العلمي الطوباوي، وبالتأثر الشديد بالعوامل الذاتية والإيديولوجية لدى الاستشرافيين، وبالتفسيرات المتناقضة المماثلة للتفسيرات التاريخية أو الفقهية على سبيل المثال.
كل ذلك يدعونا إلى تنبيه شباب الأمة بأن يكونوا حذرين إلى أبعد الحدود عندما يستمعون إلى أشكال من استشرافيين حول المستقبل، وهم يوحون إلى المشاهد والمستمع بأنهم يعتمدون على أسس ونظريات مجرّبة وناجحة. ذلك بأن الكثيرين من هؤلاء هم من اليائسين والمحبطين، وبأن بعضهم من الخادمين لأجندات سياسية وأمنية مشبوهة سواء على مستوى الداخل أو الخارج.
نحن نبين ذلك بعد أن أصبح استشراف المستقبل موضة منتشرة على مستوى الشركات والحكومات ومؤسسات المجتمع المدني، وبدأ من لا يمارسها يشعر بعقد النقص وأنه خارج هذا العصر وأنه متخلّف. بل أكثر من ذلك، بدأت أصوات تنادي بإحداث قطيعة بين المستقبل والماضي والحاضر، باعتبار أن الماضي قد مات وأن الحاضر في طريقه إلى الموت. هذا بينما المنطق والتاريخ يشيران إلى أن الماضي والحاضر والمستقبل هم حلقات في سيرورة واحدة تؤثر في بعضها البعض وتتفاعل مع بعضها البعض.
لسنا بالطبع في وارد التقليل من أهمية موضوع ومحاولات استشراف المستقبل، خصوصاً وأننا ننتمي إلى مجتمعات عربية لازال الماضي يأخذ بخناقها ويساهم في خلق أزماتها. إنما نريد تنبيه شباب الأمة، وهم إمكانات وهدير المستقبل، بأن أغلب سيناريوهات المستقبل هي عبارة عن تصورات وعمليات أكاديمية للإخبار عن البدائل الممكنة .
أمّا المستقبل فتقرّره إرادة الحاضر، الإرادة التي ترسم ملامح المستقبل وتناضل بعزيمة وتضحيات لجعل تلك الملامح واقعاً في ذلك المستقبل.
إذا ثبت شباب وشابات الأمة على خلق تلك الإرادة وجعلوها فاعلة في حياتهم اليومية ، دون تعب ولا ملل ، فإن ثرثرات استشراف المستقبل، وخصوصاً من قبل الذين يتكلمون وكأنهم يملكون وحدهم الحقيقة وأنهم يعرفون دخائل وإمكانات وأحلام جماهير أمتهم ، يجب أن تخضع لتلك الإرادة ، لا أن تعيقها أو تحرفها عن أهدافها الوطنية والقومية والإنسانية الكبرى.
جميع ما يقوله الخبراء والمعلقون والمحللون، المجتهدون منهم والانتهازيون الكاذبون اللطامون، على شاشات التلفزيونات العربية أو من خلال الوسائل السمعية، جميعهم يجب أن يعرضوا على حاكمية وأهداف وأخلاقية وقيم إرادة صنع المستقبل، عند أجيال المستقبل، فإن توافقت الأقوال مع تلك الإرادة فبها، وإلا فإن كل ما يقوله البعض أو يدّعيه ليس أكثر من ثرثرة يجب أن تدخل من أذن لتخرج من الأذن الأخرى.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

شغل منصب وزير الصحة ووزير التربية والتعليم سابقاً في البحرين. متخصص في كتابة مقالات في شؤون الصحة والتربية والسياسة والثقافة. وترأس في بداية الألفين مجلس أمناء مركز البحرين للدراسات والبحوث. كما أنه عضو لعدد من المنظمات والمؤسسات الفكرية العربية من بينها جائزة الصحافة العربية المكتوبة والمرئية في دبي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"