أصل التصوف (1-2)

04:24 صباحا
قراءة 3 دقائق
يبالغ بعضهم في حبه للمتصوفة أو كرهه لهم، والسبب أن التصوف خرج اليوم عن مفهومه الصحيح، فالتبس على الناس حتى تطرفوا في الحكم على أهل التصوف .
- فمن أثنى عليهم مطلقاً هو متطرف في حبه لهم، ومن ذمهم مطلقاً فهو متطرف أيضاً، لأنه لا يوجد معصوم في هذا الزمن، والعصمة إن وجدت هي للأنبياء .
- وانحراف التصوف عن أصل معناه ليس وليد اليوم، بدليل أن الفيلسوف العظيم ابن خلدون أشار إليه عندما قال: "وهذا العلم (يعني التصوف) من العلوم الشرعية الحادثة في الملة، وأصله أن طريقة هؤلاء القوم لم تزل عند سلف الأمة وكبارها من الصحابة والتابعين ومن بعدهم طريقة الحق والصواب" .
- وأصله العكوف على العبادة، والانقطاع إلى الله تعالى، والإعراض عن زخرف الدنيا وزينتها، والزُهد فيما يقبل عليه الجمهور من لذة ومال وجاه، والانفراد عن الخلق، والخلوة للعبادة، وكان ذلك عاماً في الصحابة والسلف .
فلما فشا الإقبال على الدنيا في القرن الثاني وما بعده، وجنح الناس إلى مخالطة الدنيا، اختص المقبلون على العبادة باسم الصوفية .
- وربما إلى هذا المعنى أشار القشيري أيضاً عندما قال: "اعلموا أن المسلمين بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يتسمّ أفاضلهم في عصرهم بتسمية علم سوى صحبة الرسول، إذ لا أفضلية فوقها فقيل لهم الصحابة" .
- ثم اختلف الناس وتباينت المراتب، فقيل لخواص الناس ممن لهم عناية بأمر الدين الزُهّاد والعُبّاد، ثم ظهرت البدعة وحصل التداعي بين الفرق، فكل فريق ادّعوا أن فيهم زُهّاداً .
فانفرد خواص أهل السنة المراعون أنفسهم مع الله تعالى، الحافظون قلوبهم عن طوارق الغفلة باسم التصوف، واشتهر هذا الاسم لهؤلاء الأكابر قبل المئتين من الهجرة .
- أقول: والتصوف وإن كان مفهومه مرتبطاً بمفهوم الإحسان الذي هو أحد أركان الدين الثلاثة (الإسلام - الإيمان - الإحسان)، فإنه لا يصح لنا أن نبالغ فنقول كما قال السيد محمد صديق الغماري في رسالته "الانتصار لطريق الصوفية" إن التصوف كما في الحديث ركن من الأركان الثلاثة، فمن أخل بهذا المقام (الإحسان) الذي هو الطريقة، فدينه ناقص بلا شك، لتركه رُكناً من أركانه، فغاية ما تدعو إليه الطريقة وتشير إليه هو مقام الإحسان بعد تصحيح الإسلام والإيمان .
- نعم، حديث جبريل المشهور ورد فيه على لسان الرسول صلى الله عليه وسلم قوله: "هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم" . والإشارة إلى الإسلام والإيمان والإحسان، لكن من الصعب أن نحصر الإحسان في التصوف، وأن نحصر التصوف في الصوفية وهم فئة، وكأن الآخرين خرجوا عن الملّة .
- ومن الصعب جداً أن نقول أيضاً، كما قال أبو الحسن الشاذلي إن صحت نسبة القول له: "من لم يتغلغل في عملنا هذا مات مصرّاً على الكبائر وهو لا يشعر" .
- أجل صحبة الصالحين مطلوبة، والاقتداء بالأمثل أمر مطلوب أيضاً، لكن ليس كما قال المثل المصري: "إلّي مالوش شيخ شيخه الشيطان"، في إشارة إلى أنه لا بد لك أن تنضم إلى طريقة من الطرق الصوفية وإلا فأنت ضالّ .
- ومن الملاحظ اليوم أن معظم من يرئسون هذه الطرق أخذوا المنصب بالوراثة، فليس بالضرورة أن يكون الوارث عالماً أو ورعاً أو تقياً، فالمهم أنه ابن شيخ وقادراً على جلب المصلحة الدنيوية .
- انظروا إلى ابن القيم فهو في الأصل على خلاف مع الصوفية، لكنه لا ينكر التصوف الحقيقي فيقول: "إذا أراد العبد أن يقتدي برجل، فلينظر هل هو من أهل الذكر أو من الغافلين، وهل الحاكم عليه الهوى أو الوحي، فإذا كان الحاكم عليه هو الهوى، وهو من أهل الغفلة فكان أمره فُرطاً" .
إلى أن يقول: "فينبغي للرجل أن ينظر في شيخه وقدوته ومتبوعه، فإن وجده كذلك فليبتعد عنه، وإن وجده ممن غلب عليه ذكر الله تعالى واتباع السنة، وأمره غير مفروط عليه، بل هو حازم فيه فليستمسك بغرزه" .
- إذاً، كان ابن القيم سلفياً ومتصوفاً في الوقت نفسه، لكن تصوفه كان منضبطاً .

د . عارف الشيخ

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

مؤلف وشاعر وخطيب. صاحب كلمات النشيد الوطني الإماراتي، ومن الأعضاء المؤسسين لجائزة دبي للقرآن الكريم. شارك في تأليف كتب التربية الإسلامية لصفوف المرحلتين الابتدائية والإعدادية. يمتلك أكثر من 75 مؤلفا، فضلا عن كتابة 9 مسرحيات وأوبريتات وطنية واجتماعية

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"