قراءة أولية في نتائج الغزو الأمريكي للعراق

04:37 صباحا
قراءة 4 دقائق

قالت صحيفة نيويورك تايمز إنه ينبغي انتظار عقود طويلة قبل إصدار أحكام نهائية على الحرب الأمريكية على العراق . ولكن منذ اللحظة فإن ثمة نتائج باتت مؤكدة تعفينا من صبر الانتظار، أولها انقشاع الوهم عن الأضاليل والأكاذيب التي بنيت عليها هذه الحرب في الأساس . فقد تبين للجميع أن العراق لم يكن يملك شيئاً من أسلحة الدمار الشامل، كما أنه لم يثبت مطلقاً أي علاقة له بتنظيم القاعدة . وماذا عن الأساس الثالث الذي بنيت عليه هذه الحرب أي الديمقراطية والحرية للعراق، بحسب الاسم الذي حملته عملية الغزو؟

صحيح تخلص العراقيون من ديكتاتور كان يستبد بهم أيما استبداد، لكن ذلك كان بأثمان باهظة عبر حرب استمرت عشرين عاماً، أي منذ العام 1991 (حرب الخليج الثانية) وحتى العام 2003 عندما كلفهم الحصار الاقتصادي مليون مدني من أطفال وشيوخ ومرضى، وصولاً إلى الغزو الذي أعقبه احتلال دام تسع سنوات رغم أن الرئيس بوش بنفسه أعلن عن انتهاء العمليات العسكرية في مارس/آذار من العام 2003 . وفي سنوات الاحتلال سقط أكثر من مئة ألف مدني عراقي قتيلاً وأضعاف أضعافهم جرحى ومعاقين، فضلاً عن البنية التحتية للبلد التي لن تعود إلى وضعها الطبيعي في أقل من سنوات طويلة وبكلفة أكثر من باهظة إذا استمر الفساد على حاله ينهش جسم الطبقات العراقية، السياسية والاقتصادية، التي نشأت بفضل الاحتلال .

أما عن العملية السياسية فأقل ما يقال فيها إنها متعثرة، يكفي النظر إلى الخلاف الخطر بين رئيسي الحكومة والبرلمان، والذي يتخذ بعداً مذهبياً واضحاً وينذر بما هو أسوأ وأبعد من الحدود العراقية، في منطقة يسودها التوتر المذهبي الذي كان للأمريكيين أيضاً فضل كبير فيه .

وربما يكون القول إن العراق يسير في طريق التقسيم فيه قدر من المبالغة، لكن ماذا عن الدولة الكردية التي أضحت واقعاً على الأرض لا ينقصه سوى الاعتراف القانوني الدولي كي تتحول إلى دولة ذات سيادة وعضو في الأمم المتحدة أيضاً . ولو أن للأكراد مصلحة في ذلك لحاولوا لكنهم يفضلون دولة الدو فاكتو أي القائمة بالأمر الواقع، على دولة الدو جيري أي المعترف بها قانوناً، وذلك لأسباب تتعلق بعدم قناعتهم بحدودها الحالية ولأنهم من أكثر المستفيدين من الفيدرالية الحالية . وهذا سببه ضعف الدولة المركزية غير القادرة على السيطرة على الجماعات المنشقة عدا عجزها عن الدفاع عن حدودها في وجه أي اعتداء خارجي . فالأمريكيون يتركون العراق من دون جيش قوي مجهز بالأسلحة والأعتدة والطيران والدفاع الجوي، ومن دون شرطة وقوات أمن قادرة على الإمساك بمساحة البلد الممتدة .

لقد أراد الأمريكيون إبعاد تنظيم القاعدة عن بلادهم فاختاروا له العراق ساحةً بهدف تركيز قوة التنظيم في مكان واحد يصار إلى محاربته وتصفيته . وهكذا تحول العراق ساحة تصفية حسابات بين اللاعبين الدوليين والإقليميين ومرتعاً لإرهاب لم يعرفه في حياته ولا يبدو أنه سيتخلص منه في وقت قريب، هكذا هو حال لبنان منذ عقود طويلة ولأسباب شبيهة .

إن أسوأ ما فعله الأمريكيون للعراق هو أنهم استوردوا له صيغة لحكمه ثبت في لبنان أنها مصنع للمشكلات ومورد للأزمات: النظام السياسي القائم على المحاصصة الطائفية . انظروا كيف يتخبط لبنان في أزمات تلو الأزمات وفي حروب أهلية معلنة ومضمرة من دون القدرة على الإفلات من حبائلها، رغم تغني كثيرين فيه بالحرية التي يتمتع بها سكان هذا البلد المسكين . صحيح أن في لبنان صحافة حرة، إلى حد معقول، وحرية تعبير واجتماع ومعتقد وتداول سلطة وانتخابات وغيره، لكن كما يقول الرئيس سليم الحص هناك في لبنان الكثير من الحرية والقليل من الديمقراطية، والسبب هو النظام السياسي الطائفي .

في العراق اليوم الكثير من الصحف والفضائيات والأحزاب السياسية والتجمعات وحرية التعبير وانتخابات وما شابه . لكنه، كما لبنان، يعجز عن تشكيل حكومة من دون صرف جهود مضنية لأشهر طويلة وبعد تدخلات خارجية . وتتزاحم فيه الأزمات السياسية التي يتدخل أو يتسبب فيها الخارج . بل إنه أضحى ساحة صراع بين القوى الإقليمية المحيطة به . وفي هذا المجال ينبغي التذكير بأن إحدى علامات فشل الولايات المتحدة أن غريمها الإيراني من كبار المستفيدين من حربها العبثية .

بالطبع من نافل القول إنه كان لهذه الحرب أهداف استراتيجية تطاول النظام الإقليمي بل الدولي برمته، كما حلم المحافظون الجدد .ليس فقط أنه لم يتحقق شيء من هذه الأهداف، لكن الولايات المتحدة خرجت بخسائر باهظة معنوية على الأقل (فضائح سجن أبو غريب والتعذيب في المعتقلات وبلاك ووتر على سبيل المثال لا الحصر)، وسياسية، فقد باتت تكرهها شعوب الأنظمة الحليفة قبل غيرها، وبشرية آلاف القتلى والجرحى، فضلاً عن الخسائر الاقتصادية التي يصعب احتسابها . البنتاغون يقدم رقم 770 مليار دولار، لكن باحثين من جامعة براون مثلاً يقدرونها بأربعة آلاف مليار، لأن الإنفاق لن يتوقف بعد الانسحاب، بحسب الباحثة ليندا ميلز، بل سوف يستمر على صحة الجنود المصابين ورعايتهم وهو إنفاق قد يستمر لثلاثين سنة مقبلة لاسيما للمصابين بعاهات دائمة . هذه النفقات يقدرها الاقتصادي براين إدواردز من راند كوربورايشن بين 350 و470 مليار دولار على المدى الطويل، مضيفاً أن مجلس الشيوخ لم يؤمن مثل هذه المبالغ التي سيتم استدانتها بفوائد باهظة في هذه الأوقات المالية العصيبة .

إنها حرب خاسرة بكل المعايير، لذلك يفاخر الرئيس أوباما بأنه كان ضدها منذ اليوم الأول، وهو لن يتردد في استخدام الانسحاب من العراق كإنجاز يساعده في حملته الانتخابية .

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دكتوراه دولة في العلوم السياسية وشغل استاذاً للعلاقات الدولية والعلوم السياسية في الجامعة اللبنانية ومشرفاً على اطروحات الدكتوراه ايضاً .. أستاذ زائر في جامعات عربية وفرنسية.. صاحب مؤلفات ودراسات في الشؤون الدولية باللغتين العربية والفرنسية.

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"