ظلموك يا هارون الرشيد

00:42 صباحا
قراءة 5 دقائق
د. يوسف الحسن

}} من أسف، فإن هارون الرشيد، الخليفة العباسي الذي بلغت الدولة الإسلامية في عهده، شأناً عظيماً من الرقي والحضارة، لم يقترن اسمه في هذا العصر، إلا بالفنادق والأندية الليلية والمطاعم، والمباهج والمسرات، وليالي «ألف ليلة وليلة».

}} هذا الخليفة العظيم، الذي عرف بكرمه وعدله وتواضعه وعلمه وجهاده الذي أمضى معظم حياته من أجله، تعرض للتشويه والتزوير، ونسجت حوله الكثير من الخرافات، إلى درجة صار فيها لا يقبل أحد أن يقترن اسم هذا الخليفة، بجامعة أو بمركز علمي أو بمدينة أو بمعسكر أو حتى بمؤسسة خاصة أو عامة ذات صلة بالاجتماع أو الاقتصاد أو العلوم أو الأدب.. إلخ.
}} هذا الخليفة، صاحب المكانة الكبيرة في عصره و«الذي كان يحج عاماً ويغزو عاماً»، ويحتفي بالعلم والفقه والأدب واللغة، لم يعجب مؤرخين غربيين كثراً، فلم يتذكروا إلا أنه «كان مرحاً، لا ينسى نصيبه من الدنيا، محباً للسمر واللهو». وقد أسهم الأدب الشعبي، في تضخيم هذه الصفات، واتخذه مادة للتسلية، كما نرى ذلك في حكايات «ألف ليلة وليلة وليلة». وأسهمت (هوليوود) في ترويج هذه الحكايات، وهذه الصور النمطية اللاهية والمترفة عن هارون الرشيد وعصره مثل صور «شمس الصحراء، والحب والشاعرية، والسجاد الفاخر، ورقص الحريم، والشرق الغامض الغرائبي والمفعم بالأسرار، والخدم المعتمرين للعمائم.. إلخ».
}} وفي عصور النهضة الغربية، وبخاصة في القرن التاسع عشر، استحضر أوروبيون، فنانون ومغامرون وعامة، صوراً تخيلية لحكايات «ألف ليلة وليلة» و«ليالي» هارون الرشيد، واجتاحت أوروبا «موضة الشرق»، في العمران والمتاحف والقصور، «هروباً من الحداثة المتنامية»، كما يقول (أندرياس بفلنس) في كتابه (أسطورة الشرق)، وكذلك في حياة اللهو والنساء الفاتنات «بعيون كعيون الظباء»، وعطور وموسيقى ورقص.. إلخ.

}} إلا أن هذا الافتتان بالشرق المتخيل، تم تأويله بعلامة من علامات التأخر، وقيل وقتها: «إن أحب شيء لدى الشرقيين، هو قضاء القسط الأطول من اليوم، في كسل هادئ، وهم مضطجعون على أرائك، يدخنون التبغ، ويحتسون القهوة».

}} وفي ضوء هذا الافتتان بصور نمطية متخيلة، قدمت (شهرزاد) في المخيال الغربي، مجرد أنوثة قادرة على الإغواء وابتداع القصص، فحولت الملك الشرير (شهريار) إلى عاشق ومعجب «مسرور وبالخير مغمور»، كما تقول (فاطمة المرنيسي).

}} هذه الصور (الهارونية الرشيدية)، اعتدنا على «التهامها» من دون التنقيب فيها، وكذلك فعل الغرب، ولأسبابه الخاصة.

}} لم ننقب في ما امتلكته هذه ال (شهرزاد)، من علم وحكمة ومعرفة، واطلاع على أخبار الأمم وسلوك الملوك، وما حفظته من قصائد الشعراء، وما تمتعت به من أنوثة أرستقراطية، وموهبة أخاذة وذكاء، إنما هدهدت تخيلات عن لهو هارون الرشيد، وليالي شهرزاد التي «أدركها الصباح، فسكتت عن الكلام المباح»، خيال المجتمعات العربية والإسلامية لقرون طويلة.
}} قلة من الكتاب، تحدثت عن الورع الديني لهارون الرشيد، وعن إخماده لثورات الخوارج والفتن الداخلية، وعن اهتمامه بتقوية الثغور الإسلامية المتاخمة للبيزنطيين.
}} تجاهل كثيرون، سيرة هارون الرشيد، وكيف ارتبط اسمه بعظمة الدولة واتساع مساحتها، وتعاظم ثروتها، وهو الذي خاطب سحابة يوماً وقال: «أمطري أنى شئت، فسيأتيني خراجك».
}} وقد ازدانت الدولة في عهده بالعلم والأدب والفنون، ووصفه ابن خلكان بأنه «أنبل الخلفاء وأعظم الملوك، ذو حج وجهاد، وغزو وشجاعة ورأي». وعرف عنه التفقه ومحبة العلماء والشعراء، والصبر وأداء الفرائض والسنن، ووصفه البعض بأنه كان من «البكائين المتأثرين بالنصوص القرآنية وسير الصالحين».
}} وعرف هارون الرشيد بمناصرته للعلم، وبمجالسه الحافلة بالأدب والشعر، وكان متذوقاً للغة العربية والشعر، والتقى في مجالسه الأطباء والموسيقيين والشعراء والعلماء، ومن هؤلاء أبو نواس وأبو العتاهية والأصمعي وجابر بن حيان، ومن أئمة عصره الشافعي ومالك، واللغوي النحوي سيبويه والكسائي، وإسحاق الموصلي.. إلخ.
}} وكانت سجلات بلاط هارون الرشيد، مكتوبة على الورق، وليس على ورق البردي أو جلود الحيوانات كما في أوروبا، وكان في سوق الوراقين في بغداد، أكثر من مئة محل لبيع الكتب والورق، وجعل بغداد مركزاً للعالم، وكانت شوارعها تكنس وتغسل، ومغطاة بالحدائق والقصور والمساجد والحمّامات ومدارس العلم والمستشفيات. ونشطت في عهده حركة الترجمة.
}} وأقام هارون الرشيد، علاقات صداقة، مع (شارلمان)، ملك الفرنجة، والذي كانت عاصمته في ذلك الوقت مدينة (آخن) الألمانية، وكان (شارلمان) قد غزا قبائل السكسون الوثنية الهمجية وأجبرها على اعتناق المسيحية، وجلب إلى عاصمته علماء من إيرلندا وإيطاليا وإسبانيا، حتى صار يطلق على (آخن) اسم (أثينا) الثانية، لكن عاصمته لم تعرف أي اكتشافات علمية أو رياضية حتى القرن الخامس عشر، وكانت أوروبا تعيش عصوراً مظلمة من الجهل والخرافات. إلى الحد الذي كان فيه (شارلمان) الأكبر، يجهد نفسه في شيخوخته لتعلم القراءة والكتابة، وتقول المؤرخة الألمانية (زيغريد هونكه): «إن نحو خمسة وتسعين في المئة من سكان الغرب، لا يستطيعون القراءة والكتابة» على مدى القرون من التاسع وحتى الثاني عشر، في وقت كانت فيه بغداد والقاهرة والأندلس تحفظ المعارف والحكمة اليونانية، وملأى بالمكتبات ودور العلم والمستشفيات وثورات العقل والفلسفة.. إلخ.

}} وقد تنبه (شارلمان) إلى تلك العواصم المضيئة، فأرسل إلى بغداد هارون الرشيد، وفداً لإقامة علاقات دبلوماسية معها، وكان الخليفة سعيداً بمقابلة هذا الوفد من «المتخلفين حضارياً»، واستناداً إلى مؤرخين فرنجة، فإن هارون الرشيد، أظهر تقديره لمبادرة (شارلمان)، فأغدق على الوفد الهدايا بسخاء، وتبادل (شارلمان) وهارون الرشيد، الهدايا على مدى السنوات التالية. لكن هدايا الرشيد كانت متميزة، وشملت سيوفاً وحريراً وعطوراً، وكانت السيوف معقوفة ومصنوعة من فولاذ دمشقي، كما أهداه ساعة ميكانيكية رائعة، يخرج منها اثنا عشر فارساً، من اللوح الزجاجي الأمامي، عندما تدق الساعة.

لكن الهدية الأكثر تميزاً كانت عبارة عن فيل ضخم، حيث قام (شارلمان) ببناء منزل خاص لهذا الفيل وأخذه معه في حملة عسكرية ضد الدنماركيين. وفي هذه الحملة نفق الفيل.
وكان مبعوثو هارون الرشيد، قد شقوا طريقهم عبر البحر الأبيض المتوسط، ومعهم الهدية «الفيل»، وعبروا إلى إيطاليا وجبال الألب حتى وصلوا إلى (آخن)، وقدموا إلى (شارلمان) الفيل، في مشهد مهيب، وكان المبعوثون قد أطلقوا اسم (أبو العباس) على الفيل، تيمناً بمؤسس السلالة العباسية.
}} ولا شك، أن تأثير هارون الرشيد، قد امتد إلى أبعد من هذه الهدايا السخية والمميزة، وذلك بما تركه من مسار لثورة علمية بعد وفاته في عام 809، بدءاً من بيت الحكمة في عهد المأمون، وإبداعات علماء من أمثال الرازي النابغة في الطب والكيمياء والموسيقى، وغيره من العلماء.
}} مازالت - من أسف - الصورة النمطية المبثوثة في حياتنا المعاصرة، عن هارون الرشيد، صورة سلبية أحادية ضيقة، تحاصره في شرنقة من اللهو والمجون، أدخل فيها الخيال و«الاختراع» والتلوين والتشويه، وتمت تغذيتها وسقايتها، حتى وصلنا إلى حصرها بمسميات للفنادق والملاهي والمطاعم ودكاكين الحلويات وقاعات الأعراس والغناء والرقص الشرقي.
.... كم نحن بحاجة إلى مراجعات جذرية لمنظومة من المفاهيم وجوانب كثيرة من الثراث.. ظلمنا هارون الرشيد.. والمطلوب إنصافه.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

إعلامي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"