أهمية دور الدولة العصرية

03:43 صباحا
قراءة 3 دقائق
تطرح التطورات المُتسارعة في منطقتنا العربية مجموعة من التحديات، منها مرتبط بالنشاط الاقتصادي، ومنها يحمل معاني سياسية كبيرة، والبعض الآخر له علاقة بالقضايا الوجودية على حد ما ترغب بتسميته المجموعات الاثنية أو العرقية أو الدينية، أو ما درجت العادة على تسميتهم بالاقليات .
وقد ثبت من دون أي شك، أن النشاط الاقتصادي وما يتفرع عنه من إنتاجية ونمو وحركة تبادلية للسلع، وما يسمى بالأمن الغذائي، يحتاج إلى لوائح وقوانين، وأداة ضامنة لتطبيق هذه الأنظمة . وهي بطبيعة الحال الدولة التي تُدار بواسطة الحكومة .
والأمن وفقاً للفهم الحديث، أي في مندرجاته المُختلفة المرتبطة بتطور الأسلحة والمواصلات والاتصالات ووسائل الحصول على المعلومات، لا يمكن توفيره إلا من خلال الدولة . فالشركات الأمنية مهما كبُرت، لا تتعدى كونها مؤسسات للحراسة والمواكبة لا أكثر . وهيبة القبيلة لم تعُد كافية لحماية أفرادها مع تطور التكنولوجيا، ومع الإقامات المُتباعدة لأعضائها في مدن وقرى ودول مُتعددة . كما أن المجهودات الفردية عاجزة عن توفير الاستقرار لأيٍ كان في ظل تطور وسائل الإجرام، وبروز ظواهر الإرهاب التي تتلطى خلف العقائد السوداء .
أما قطاعات التعليم والصحة والزراعة والبيئة والنقل والصناعة والرعاية الاجتماعية، فلا يمكن مقاربة مُعضلاتها، أو معالجة أخطارها والوقاية منها، إلا من خلال الدولة المُتماسكة، لأن بعض مصادر التهديد أصبحت عابرة للحدود، أو قادمة من خارج الحدود، وآخرها مثلاً فيروس "إيبولا" .
الدولة: سلطة سياسية ذات سيادة، تُدير الشأن العام في إقليم جغرافي مُحدد، ويخضع لها سكان الإقليم والقاطنون عليه وفقاً لقوانين وأنظمة مُحددة .
والشأن العام مفهوم مطاط، يمكن أن يتمدد، أو يتقلص، تماشياً مع طبيعة الدولة ونمط الحكم فيها، إلا أن الثابت أن الأعباء المُلقاة على عاتق مؤسسات هذه الدولة تتوسع، وأصبحت العصب الأساسي الذي يُدار بواسطته الحراك المُجتمعي، بما فيه من تشعبات وتنوع، خصوصاً في القضايا التي تُشكلُ مشتركات بين السكان، وبينهم وبين المرافق العامة .
والشعب الذي يخضع لسلطة الدولة، هو مصدر السلطة وفقاً لمفهوم الديمقراطية الرقمية، أو ديمقراطية المُبايعة .
تتعرض الدولة في أكثر من بلد لهجمات تأخذ طابع المطالبة بالتغيير أحياناً، وتأخذ الطابع التدميري في أحيانٍ أخرى . فالمطالب التغييرية قد تكون مشروعة في معظم الأوقات، وعادةً ما تهدف إلى إحداث تطور في أساليب العمل العام أو ترشيقه، أو إصلاح إعواجاج حاصل . أما الحركات الموجهة ضد الدولة، والتي تأخذ الطابع التدميري تُشكلُ ظاهرة خطرة، تستحق التوقف عندها، نظراً لأنها تستقدم أخطاراً واسعة التأثير على مواطني الدولة، وعلى الدول المجاورة . فالظواهر الانقلابية عادةً ما تتمدد، وتنتشر، اذا ما لاقت احتضاناً، وهي تؤسس لمقاربات عابرة للحدود .
حصل ذلك عندما انتشرت مفاهيم ثورة "الماكناكارتا" البريطانية في العام 1215م إلى كامل أوروبا، ولكنها كانت مفاهيم إيجابية تتعلق بتحرير الإنسان من بعض القيود . والأمر تكرر أكثر من مرة، مع انتشار ظاهرة النازية في النصف الأول من القرن العشرين، ومع الشيوعية في القرن العشرين، ولكن هاتين الظاهرتين العقائديتين اللتين سادتا ردهة طويلة من الزمن، استندتا إلى تقوية ركائز الدولة القومية، والدولة الأممية، ولم تدعوا إلى تدمير الدول، بقدر ما نادتا بتغيير الأنظمة .
نشهد في وقتنا الراهن هجمة قوية تستهدف تدمير دول وطنية نشأت منذ زمنٍ طويل في منطقتنا العربية . والاستهداف يشمل تغيير النظام في بعض الأماكن، وتغيير طبيعة الدولة برمتها - بما في ذلك الحدود - في أماكن أخرى . ويتمدد الاستهداف إلى إحداث تغييرات جذرية في طبيعة مهام الدولة، كُنا نعتقد أنها رحلت إلى غير رجعة . وينطبق الوضع الذي نتحدث عنه على ما يجري في اليمن، وفي ليبيا، وعلى درجة أكثر خطورة في العراق وسوريا على وجه التحديد .
كانت الحركات الإرهابية - أو "الجهادية" تعمل على الانتقام من دول أو قيادات، وغالباً ما حملت شعار محاربة الصهيونية، أو "الاستكبار العالمي" الذي تقوده الولايات المتحدة الأمريكية، ونفذت مجموعة من الأعمال الإرهابية التي استهدفت زعزعة الاستقرار في بعض الدول، أو اغتيال أشخاص، أو تدمير مُنشآت، وابرز مثال: ما قامت به منظمة القاعدة الإرهابية في 11 سبتمبر/أيلول 2001 في الولايات المتحدة الأمريكية .
ومنظمة القاعدة الإرهابية لم تنشط لإقامة دولة أو خلافة أو إلغاء الحدود أو الإبادة لمجموعات عرقية أو دينية تختلف معها، كان هدفها إرهابياً وانتقامياً، وخلق المتاعب والفوضى في الساحات أو الدول التي تعاديها .
ما يحصل اليوم مختلفٌ تماماً من حيث الشكل ومن حيث المضمون . إنه استهدافٌ للدول، ومحاولة تدميرها، وخلق فوضى تأكُل الأنظمة والتشريعات تحت مُسميات مختلفة "إنشاء خلافة" أو ما شابه . إنه تدمير لدور الدول بمفهومه العصري .

د . ناصر زيدان
التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دكتوراه في العلوم السياسية والقانون الدولي العام.. أستاذ محاضر في الجامعة اللبنانية.. له 10 مؤلفات وعشرات الأبحاث والمقالات والدراسات في الشؤون الدولية..

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"