تركيا والانتخابات الفرنسية

05:07 صباحا
قراءة 4 دقائق

في 29 يناير/ كانون الأول 2001 صدر قانون فرنسي يعترف رسمياً بأن ما حصل في العامين 1915-1916 في تركيا هو إبادة بحق الشعب الأرمني، ولكن من دون أن يلحظ معاقبة من ينكرون حصول مثل هذه الإبادة . وفي العام 2007 خلال معركة الانتخابات الرئاسية وعد المرشح نيكولا ساركوزي بأنه في حال فوزه في الانتخابات فإنه سيدعم تبني قانون يعاقب منكري الإبادة الأرمنية، وذلك على غرار قانون غايسو الذي يجرّم من ينكر حصول إبادة في حق اليهود خلال الحرب العالمية الثانية . لكن ساركوزي، على ذمة إحدى برقيات ويكيليكس المنشورة في العام ،2010 سارع إلى إرسال مستشاره الدبلوماسي جان-دافيد ليفيت إلى أنقرة ليطمئنها بأنه سَيَدَعْ مشروع القانون المذكور يموت في أدراج مجلس الشيوخ، وهذا ما حصل بالفعل .

وهكذا نجح المرشح ساركوزي في الاستحواذ على ما أمكن من أصوات الأرمن الفرنسيين وعددهم خمسمئة ألف نسمة . كما نجح الرئيس ساركوزي في تفادي تعكير صفو العلاقات مع الحليف التركي العضو في حلف الأطلسي رغم تحفظه المعلن على دخول تركيا في الاتحاد الأوروبي .

في 12 أكتوبر/ تشرين الأول 2006 تبنت الجمعية الوطنية الفرنسية نسخة أولى من مشروع قانون قدمه النائب الاشتراكي ديدييه ماغو ينزع إلى مكافحة نفي الإبادة الأرمنية . وكان آلاف من القوميين الأتراك قد تظاهروا في مدينة ليون، في مارس/ آذار 2006 احتجاجاً على إقامة نصب تذكاري لهذه الإبادة . وانتظر النص المذكور خمس سنوات قبل أن يصل إلى مجلس الشيوخ الذي رده من دون الموافقة عليه بعد خلافات نشبت بين أعضاء الحزب الحاكم نفسه (يقال إنها كانت مناورة) . ويقول السناتور الاشتراكي سيرج لاغوش إن الإليزيه تدخل من أجل عرقلة تبني النص في مجلس الشيوخ .

ولكن بعد أقل من ستة أشهر عادت المسألة الأرمنية فجأة إلى السطح في وقت يعاني فيه الرئيس ساركوزي انخفاضاً حاداً في شعبيته عشية المعركة الانتخابية لولاية ثانية . وهكذا من أمام النصب التذكاري للمجازر الأرمنية خلال زيارة له إلى عاصمة أرمينيا إيريفان طالب تركيا بأن تعيد النظر في تاريخها وندّد بالإنكار الجماعي للإبادة الأرمنية الذي هو أسوأ من الإنكار الفردي، مهدداً بأن يسن قانوناً قبل انتهاء ولايته إذا لم تتقدم أنقره بخطوة في اتجاه الاعتراف بهذه الإبادة .

بالطبع كان ساركوزي يدرك تماماً بأن مثل هذه الخطوة لن تأتي، وهكذا أوعز إلى النائب في حزبه الحاكم السيدة فاليري بوير التقدم إلى الجمعية الوطنية بنص القانون الجاهز، رغم تدخل وزير الخارجية ألان جوبيه لإقناعه بالتراجع نظراً إلى أهمية التحالف الاستراتيجي مع تركيا، لاسيما في الظروف الدولية الراهنة . وقد ذهب جوبيه إلى حد الإعلان بأنه من الحماقة بمكان استفزاز مثل هذا الحليف من أجل بضعة أصوات أرمنية في الانتخابات المقبلة .

قانون بوير الذي أقرته الجمعية الوطنية لا يتكلم صراحة عن الإبادة الأرمنية، لكنه يعاقب بالسجن عاماً وبغرامة قدرها 45 ألف يورو كل من ينكر جهاراً ما يعدّه القانون الفرنسي إبادة، وهذا القانون يعترف حتى الآن بإبادتين: اليهودية والأرمنية، ولا يعاقب إلا إنكار الإبادة اليهودية (قانون غايسو) . ففي العام 1995 لم تتمكن المحكمة الجزائية في فرنسا، رغم كل حراك لجنة الدفاع عن القضية الأرمنية، من معاقبة المؤرخ برنار لوي الذي قال في صحيفة لوموند العام ،1993 إن ما يسمى بالإبادة الأرمنية ليس سوى النسخة الأرمنية للتاريخ . وقد لجأت لجنة الدفاع المذكورة إلى قانون غايسو لكن تبين بأن نطاقه لا يتعدى حدود الإبادة اليهودية، فانتهت القضية عند هذا الحد .

لأسباب انتخابية سوف يذهب القانون الجديد إلى مجلس الشيوخ حيث سيقر على الأرجح، ذلك أن اليمين تقدم به واليسار الطامح بدوره إلى الأصوات الأرمنية، يدعمه هو الآخر . لكن أصواتاً كثيرة من الطرفين أصدرت تنديداً بما وصفته بالمهزلة وبالحماقة، منها رئيس لجنة الشؤون الخارجية في البرلمان اليميني أكسيل بونياتوفسكي، فضلاً عن وزير الخارجية نفسه .

في أوساط المثقفين أيضاً هناك من عَده كَماً للأفواه في بلد يفاخر بحرية التعبير والمعتقد . المؤرخ بيار نورا اتهم ساركوزي بالسعي إلى اكتساب أصوات الأرمن والرافضين لانضمام تركيا إلى الاتحاد الأوربي، وذكّر بأن الرئيس شيراك كان، في العام ،2006 قد ندّد بكل تشريع ينبش الذاكرة، لأن مهنة المؤرخين تفسير الماضي وليس سنّ القوانين والتشريعات . وهذا ما خلصت إليه، في العام ،2008 لجنة برلمانية حول مسائل الذاكرة . وقد أعلن رئيس المجلس الدستوري روبير بادنتر بأنه لو عرضت القوانين المتعلقة بالذاكرة، مثل قانون غايسو، أمام المجلس الدستوري لرفضها بالإجمال .

رد الفعل التركي كان فورياً وعنيفاً، فبعد استدعاء السفير التركي من باريس أعلن رئيس الوزراء أردوغان عن رزمة أولى من العقوبات ضد فرنسا في مجالات التعاون العسكري والتنسيق السياسي، عدا اتهامه العلني للرئيس ساركوزي باستغلال التمييز العنصري والديني ضد الأتراك لأسباب انتخابية دنيئة . وعلى الأرجح أن لا شيء يمكن أن يعوّض تركيا ويدفعها إلى إعادة علاقاتها مع فرنسا إلى سابق عهدها، إلا موقف إيجابي فرنسي حيال انضمامها إلى الاتحاد الأوروبي، وهو ما لا يستطيع ساركوزي أن يقدمه في الوقت الراهن، ما يعني أن ساركوزي في نهاية ولايته الأولى (أو عهده على الأرجح) أطاح العلاقة مع دولة إقليمية كبرى جعلتها الظروف الدولية من أقرب الشركاء إلى فرنسا في عدد كبير من الملفات الحساسة التي مايزال بعضها يغلي على صفيح ساخن، منها الملف السوري على سبيل المثال .

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دكتوراه دولة في العلوم السياسية وشغل استاذاً للعلاقات الدولية والعلوم السياسية في الجامعة اللبنانية ومشرفاً على اطروحات الدكتوراه ايضاً .. أستاذ زائر في جامعات عربية وفرنسية.. صاحب مؤلفات ودراسات في الشؤون الدولية باللغتين العربية والفرنسية.

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"