بلد يعيش تحت وطأة حلقة مفقودة

04:37 صباحا
قراءة 3 دقائق
محمود الريماوي
حلّت قبل يومين (14 فبراير) الذكرى العاشرة لاغتيال رئيس حكومة لبنان الشهيد رفيق الحريري . ليس من الصعب القول إن الفراغ الذي تركه هذا الرجل، ما زال قائماً بعد عقد على رحيله المأساوي . الفراغ المقصود هو السياسي الذي لم يملأه أحد، والذي ما زال لبنان واللبنانيون يشكون من تداعياته المنظورة والمستترة . كان الرجل نموذجاً للاعتدال والانفتاح الوفاقي في بلده الصغير ذي الإشعاع . عقب رحيله نحا البلد إلى مزيد من الاحتقان والتشدد . برزت ظاهرة التشدد التي ما زالت تنمو وتشكل تهديداً أمنياً جسيما، ولم تنجح القوى السياسية ذات النفوذ في أداء دور وفاقي بل تزايد الحذر منها . وصل لبنان إلى درجة بات معها ممثلوه النيابيون عاجزين منذ تسعة أشهر عن اختيار رئيس جمهورية للبلاد وفي سابقة نادرة .
مع غياب الحريري والضحايا الذين رافقوا مصرعه، بدا لبنان وحتى تاريخه يشكو من حلقة مفقودة تحول بينه وبين العودة إلى الحياة الطبيعية . وقد ساهمت الإطالة في إجراءات القضاء والمحكمة الدولية، في تعميق الشعور بفقدان هذه الحلقة . وهكذا فإن غياب العدالة التي لم تقل بعد كلمتها الأخيرة في جريمة الاغتيال وما تلاها من جرائم مماثلة، قد تضافر مع غياب الدور الوفاقي والإعماري للرجل، في إبقاء لبنان في ما يشبه غرفة العناية المركزة أو حتى في عنق الزجاجة حيث تتقاذفه الأزمات الاقتصادية والأمنية والدستورية . وتتضاعف المشكلة مع الاضطراب الكبير الذي يشهده الجوار السوري منذ نحو أربع سنوات والارتدادات المباشرة لهذا الاضطراب على لبنان الذي ضرب النسيج الاجتماعي اللبناني . ومع بروز أولويات إقليمية مثل مكافحة داعش أو إطفاء الحريق الليبي، وصولاً إلى انتظار رؤية نهاية للأزمة السياسية في العراق، ثم الاضطراب البنيوي في اليمن، فإن مكانة لبنان في المنطقة كما حال دول أخرى تضعف، ويفقد أكثر فأكثر جاذبيته للاستثمار أو للسياحة وكذلك وهجه الإعلامي ما يفاقم أزمته السياسية المتطاولة التي اندلعت منذ اغتيال الحريري، وقادت المجتمع إلى اصطفافات واستقطابات لا عهد له من قبل في حدّتها، وفي تغذيتها النشطة من مصادر خارجية .
لقد اقترنت "حقبة الحريري" باستقرار سياسي مشهود، وبوحدة وطنية داخلية وبمكانة إقليمية ودولية للبنان . وها هو حبل الأمن في لبنان يضطرب بين جماعات متطرفة، ومجموعات تقيم أمناً ذاتياً، وفي هذه الأجواء المسمومة أمنياً تزداد وتيرة الارتكابات الجنائية من عمليات خطف وابتزاز وسواها، فيما تستبسل الدولة للحفاظ على مؤسساتها، ومواجهة طيف واسع من الخارجين على سلطتها وولايتها على البلاد والعباد .
يتفق مراقبون كثر داخل لبنان على أن الانقسامات الطائفية بلغت ذروة لا سابق لها وأن اغتيال الحريري شكّل دفعة قوية لهذه الأزمة . ومن الطريف أن إدراك الخسارة العامة التي يقود إليها هذا الانقسام هو ما يحول حتى الآن دون تفاقمه، كما تقول أكاديمية لبنانية (فهمية شرف الدين للنهار اللبنانية 14 فبراير) . إدراك الخسارة إذن وليس تلمس الفوائد من الوفاق . ولعل هذا الشعور بالخسارة الداهمة المتوقعة هو ما حدا ب"تيار المستقبل" و"حزب الله" لبدء حوار بينهما قبل بضعة أشهر بعد انقطاع بينهما دام سبع سنوات . رغم أنه لم ترشح أية نتائج إيجابية تذكر للحوار الثنائي، إلا أن مجرد الشروع فيه بين الطرفين أسهم في تبريد سخونة الاحتقان الطائفي . علماً بأن الحوار لم ينقطع في عهد الراحل الحريري، ولأن الأجواء والسياسات آنذاك قبل اليوم المشؤوم 14 فبراير 2005 لم تكن تباعد بين الجانبين على هذا النحو .
وحتى في الصف المسيحي فإن الانقسامات لم تكن على هذه الحدة، وكانت البطريركية المارونية قادرة على جمع الفرقاء واحتواء الخلافات بين رموز مثل أمين الجميل وسليمان فرنجية وسمير جعجع وغيرهم (كان ميشال عون آنذاك في منفاه الباريسي) . وكان بوسع رجل مثل وليد جنبلاط بمواهبه السياسية المشهودة التأثير بصورة اكبر في الحياة السياسية التي كانت تتسم بسلميتها وبالحرص على الأمن للجميع، خلافاً للمرحلة اللاحقة الممتدة حتى هذه الأيام، التي بات السلاح يلعب فيها الدور السياسي الأكبر والأبرز .
من مقولات الراحل الحريري الذي يستذكره لبنانيون كثر هذه الأيام في ذكرى رحيله، أن لا أحد أكبر من وطنه، لا أحد أكبر من لبنان . هذه العبارة التي تلخص درساً في الانتماء للوطن وفي التواضع الوطني والسياسي المطلوب من الجميع، تكاد تلخص أزمة هذا البلد الذي كان يكبر برجالاته وبزعمائه الذين يتواضعون له من أمثال كمال جنبلاط ورشيد كرامي والإمام موسى الصدر وريمون إدة ورفيق الحريري، وكأن مستقبل هذا البلد بات يكمن في ماضيه، في المثالات التي تركها جيل الاستقلال وبناة الدولة اللبنانية ورواد الوفاق والوحدة الوطنية .
التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

كاتب ومعلق سياسي، قاص وروائي أردني-فلسطيني، يقيم في عمّان وقد أمضى شطرا من حياته في بيروت والكويت، مزاولاً مهنة الصحافة. ترجمت مختارات من قصصه إلى البلغارية والإيطالية والإنجليزية والفرنسية

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"