جواسيس يراقبون شوارعنا وبيوتنا وجيوبنا

04:21 صباحا
قراءة 4 دقائق
د. غسان العزي
في أواخر العام الماضي أصدر الصحفي الفرنسي أنياسيو رامونيه كتاباً بعنوان «إمبراطورية الرقابة» فيه مقابلة مع البروفيسور نعوم شومسكي وأخرى مع مؤسس ويكيليكس جوليان أسانج، يتضمن معلومات موثقة عن حجم الرقابة التي تمارس علينا جميعاً من قبل أجهزة الاستخبارات الدولية، لا سيما الأمريكية منها.
ما كشفه إدوارد سنودين بيّن كيف أن حياتنا الخاصة تهددها الرقابة الكثيفة والشاملة التي نخضع لها عبر وسائل الاتصال والتواصل الاجتماعي وغيرها، والتي من المفترض فيها توسيع مساحات حريتنا وليس العكس.
الثورة الرقمية سهلت كثيراً عمل الاستخبارات والرقابة التي باتت في كل مكان وتمارَس بطرق غير مادية. وهي تستفيد عملياً من خمس شركات كبرى تهيمن على الشبكة العنكبوتية- غوغل وآبل وفيس بوك وأمازون ومايكروسوفت- التي تغتني من استغلال المعلومات التي تجمعها عن كل فرد منا وتنقلها مباشرة إلى وكالة الأمن القومي، وهي من أقوى وكالات الاستخبارات الأمريكية وأكثرها سرية.
في هذا الكتاب الموثق بدقة والممتلئ بالأمثلة والشواهد يصف إيناسيو رامونيه التحالف غير المسبوق- بين الدولة والجهازين العسكري والأمني وعمالقة النت- الذي بنى إمبراطورية الرقابة التي تلاحق المواطنين فتقوم بالتضييق على حقوقهم المدنية وتتهدد الديمقراطية وحقوق الإنسان.
لقد كشف سنودين كيف تتجسس وكالة الأمن القومي الأمريكية على الجميع من دون استثناء وحتى على زعماء دول حليفة وصديقة مثل أنجيلا ميركل وفرانسوا هولاند وغيرهما. وفي 13 إبريل/نيسان الماضي تضمنت صحيفة «لوموند» الفرنسية مقالة بعنوان «كيف تتجسس الإدارة العامة للأمن الخارجي» (الفرنسية) على الفرنسيين من صحفيين وعلماء ذرة ونواب منتخبين وغيرهم. وفي الثامن من يونيو/حزيران الماضي كشفت الصحيفة نفسها كيف تفعل الاستخبارات البريطانية الأمر نفسه، وكيف أنها غارقة في بحر من المعلومات والمعطيات وتعاني إدارتها وتنظيمها. وفي اليوم نفسه كتبت الصحيفة تحقيقاً عن ال «أف. بي.آي» ومساعيها للاستحصال على المزيد من القوانين التي تشرعن أعمالها التجسسية والرقابية.
ما يحصل اليوم يذكرنا برواية جورج أورويل الشهيرة «1984» الصادرة في العام 1949 التي يصف فيها الروائي البريطاني الحياة في بلد متخيَّل اسمه «أوسيانيا» حيث زعيم الحزب الحاكم «البيغ براذر» أو الأخ الكبير غير المرئي موجود في كل مكان يعرف كل شيء ويشاهد كل شيء. في «أوسيانيا» يراقب البوليس كل شيء عبر كاميراته المزروعة في كل منعطف وزاوية، من أجل حماية سيطرة الحزب الواحد. حتى ونستون سميث العضو المهم في هذا الحزب عانى الرقابة المشددة على علاقة الحب التي تجمعه برفيقته جوليا.
اليوم، بعد 65 عاماً على هذه الرواية و25 عاماً على سقوط جدار برلين يعود «بيغ براذر» للتجسد بشكل عصري مع وكالة الأمن القومي وغوغل وفيس بوك وغيرهم. ومن اللافت أن تحقق هذه الرواية أرقام مبيعات مرتفعة، في العام 2013، على خلفية ما كشفه إدوارد سنودين حول برامج الرقابة الأمريكية للإنترنت والهواتف، التي تفوق بكثير ما وصفه أورويل في روايته.
الأداة الرئيسية للرقابة في هذه الرواية هي جهاز تلفزيوني صغير ينشر «بروباغاندا» الحزب ويسجّل كل ما يحصل في المكان المزروع فيه. في «أوسيانيا» مثل هذه الأجهزة مزروعة في كل شارع ومنعطف وغرفة ومكان عام وخاص. في بريطانيا اليوم هناك ستة ملايين كاميرا منتشرة (13 ألفاً في أنفاق مترو لندن، وبين 50 و150 ألفاً في المطاعم والمقاهي...)، والمفارقة اللافتة أنه حين امتنعت بعض البلديات، لأسباب اقتصادية، عن تركيب مثل هذه الكاميرات لقيت احتجاجاً من قبل المواطنين أنفسهم الذين، على ما يبدو، يرتاحون إلى مثل هذه الرقابة التي تشعرهم بالأمن والأمان.
تكنولوجيا أجهزة التصوير تطورت كثيراً إذ باتت قادرة على التعرف إلى الأشخاص من بعد مئات الأمتار. هناك أيضا أجهزة التلفاز الذكية المجهزة بكاميرات يستحيل إطفاؤها والقادرة على تسجيل أدق الحركات وأخفت الأصوات. والأخطر من ذلك أنه في جيوبنا تقوم هواتفنا المحمولة بتسجيل كل شيء عن حركاتنا وعلاقاتنا واتصالاتنا وتحويلها فوراً إلى أجهزة الرقابة والاستخبارات المتعاقدة مع شركات التواصل والاتصال.
في العام 2013 كشف سنودين عن برنامج سري اسمه «تامبورا» تستخدمه الاستخبارات البريطانية لجمع المعلومات عن كل الناس وليس فقط أولئك الذين تجمعهم علاقة ما بعالم الإرهاب والجريمة. وفي بداية مايو/أيار المنصرم برهن فريق من الباحثين في جامعة ستانفورد بأن تحليل المعلومات الواردة من الاتصالات الهاتفية يسمح، مثلاً، بتحديد ما إذا كان الشخص المراقَب مريضاً بالقلب أو امرأة حبلى. وفي المستقبل القريب سوف يمكن الذهاب أبعد من ذلك.
بعد الفضائح التي أذاعها سنودين دلت بعض الدراسات الأمريكية والبريطانية على أن التفتيش في محرك غوغل وموسوعة ويكيبيديا عن المواضيع «الحساسة» المرتبطة بالإرهاب والقاعدة و«داعش» تراجع بشكل ملحوظ. «إنه ميكانيزم معروف جداً، فعندما ندرك بأننا مراقبون نمارس الرقابة الذاتية على أنفسنا» كما يقول مدير «بيغ براذر ووتش» وهي منظمة غير حكومية أمريكية.
حتى في عالم رواية «1984» المرعب تبقى هناك إمكانية للإفلات من الرقابة ولو مؤقتاً. ونستون سميث تمكن من التهرب من الكاميرات واختبأ مع حبيبته جوليا في حي عمالي فقير. لكن مثل ذلك يبدو اليوم أكثر صعوبة وتعقيداً، ليس فقط لأن وسائل الرقابة أضحت أكثر تقدماً وفعالية، ولكن لأن عدد المؤسسات التي تمارسها بات كبيراً جداً. في «1984» فقط الدولة تمارس الرقابة، أما اليوم فهناك الشركات الخاصة أيضاً، فنحن بملء إرادتنا نقدم لتطبيقات إنترنت معلومات شخصية جداً تصل إلى أجهزة المخابرات التي تملك عنا معلومات أخرى استقتها من مصادر متنوعة، ما يجعلها تمتلك عنا من المعلومات أكثر مما نعرفه نحن عن أنفسنا.
التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دكتوراه دولة في العلوم السياسية وشغل استاذاً للعلاقات الدولية والعلوم السياسية في الجامعة اللبنانية ومشرفاً على اطروحات الدكتوراه ايضاً .. أستاذ زائر في جامعات عربية وفرنسية.. صاحب مؤلفات ودراسات في الشؤون الدولية باللغتين العربية والفرنسية.

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"