تغيرات الخريطة التجارية العالمية

02:44 صباحا
قراءة 4 دقائق
د. عبدالعظيم محمود حنفي
تحظى مفاوضات التجارة الاقتصادية الإقليمية الشاملة باهتمام عالمي أكبر من أي وقت مضى لقيام الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بتوقيع أمر تنفيذي بالانسحاب من اتفاق الشراكة عبر الهادي المكون من 12 دولة
في 27 فبراير/شباط بدأت الجولة الثانية من مفاوضات اتفاقية الشراكة الاقتصادية الإقليمية الشاملة المعروفة اختصاراً بRCEP في كوبيه غربي اليابان. وقد شارك في الاجتماع مسؤولون من ست عشرة دولة آسيوية مشاركة في إطار عمل التجارة الإقليمية الحرة. ومن بين هذه الدول اليابان والصين وكوريا الجنوبية، بالإضافة إلى الدول الأعضاء في رابطة آسيان، وليس من بينها الولايات المتحدة الأمريكية. وناقشت الوفود خفض التعريفات الجمركية والاستثمار وتحرير الخدمات ولوائح الملكية الفكرية وموضوعات أخرى.
يذكر أن الجولة الأولى من مفاوضات اتفاقية الشراكة الاقتصادية الإقليمية الشاملة عقدت في 2013. ولكن كانت هناك خلافات بين الأعضاء حول بعض الموضوعات وأحرزت مفاوضاتهم تقدماً ضئيلاً. وفي نهاية ديسمبر/كانون الأول الماضي اتفق مسؤولو الحكومتين اليابانية والصينية على المضي قدماً في محادثات بشأن RCEP.
وتحظى مفاوضات التجارة الاقتصادية الإقليمية الشاملة باهتمام عالمي أكبر من أي وقت مضى لسبب مباشر وهو قيام الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بتوقيع أمر تنفيذي بالانسحاب من اتفاقية الشراكة عبر الهادي، المكون من 12 دولة مطلة على المحيط الهادي، وهي: أستراليا، بروناي، كندا، تشيلي، اليابان، ماليزيا، المكسيك، نيوزيلندا، بيرو، سنغافورة، وفيتنام. وهذه الدول يبلغ مجموع عدد سكانها 800 مليون نسمة، وتمثل بالتالي سوقاً هائلة تبلغ نسبتها ربع حجم التجارة الدولية. وتشكّل 40% من إجمالي حجم الاقتصاد العالمي، وتم التوصل لتلك الاتفاقية في أكتوبر/تشرين الأول من عام 2015 بين الدول الأعضاء وبات من غير المحتمل دخول هذه الاتفاقية حيز التنفيذ، و أصبحت مهددة بالإلغاء، فالاقتصاد الأمريكي هو الاقتصاد الأكبر بين كل الدول الأعضاء فيها، ومن دونه تفقد الاتفاقية أهميتها وقوتها. وبدلاً من ذلك ستسعى واشنطن لإبرام اتفاقيات ثنائية في مجال التجارة مع الدول التي انضوت في الشراكة عبر الهادي، وهذه الاتفاقيات الثنائية لن تكون بديلاً عن «الشراكة»، خاصة وأنّ الأخيرة تتضمن لوائح عالية المستوى في التجارة والاستثمار. ورافق الانسحاب وعود بفرض الرسوم الجمركية على الواردات وفرض عقوبات على الشركات الأمريكية التي تصنع في الخارج.
خطورة التوجّه الأمريكي الجديد تنبعث من كون أن الولايات المتحدة الأمريكية كانت قد انتهجت مطلع الألفية مذهب الإقليمية مع أمريكا الجنوبية، التفافاً حول شرق آسيا الأكثر ديناميكية. وتم استبعاد بلدان شرق آسيا من اتفاق التجارة الحرة للأمريكتين المقترح، ونتيجة لذلك، قامت مبادرات التجارة الآسيوية غالباً باستبعاد الولايات المتحدة. ولذلك كانت الولايات المتحدة تتلمس طريق العودة إلى التجارة مع شرق آسيا، ونتيجة لشعور البلدان الأصغر مثل سنغافورة ونيوزيلندا وفيتنام بأن الولايات المتحدة ستكون ثقلاً مضاداً للسياسة الخارجية الصينية في شرق وجنوب آسيا، مما يتيح للولايات المتحدة أن تعيد وجودها في آسيا.
انهيار اتفاقية الشراكة عبر الهادي تعني بالنسبة للعديد من الدول الأعضاء في تلك الاتفاقية مؤشراً إلى أن بكين هي من سيملي السياسات في المنطقة. ويعتبر المنتقدون أن تبريرات الإدارة الجديدة للاعتراض على الاتفاقية تعود إلى شروط جانبية وتصوّرها على هذا النحو «إذا كنت أريد الانضمام إلى نادى جولف، فإنه يتعين أن ألعب جولف، ولكن لا ينبغي أن أذهب إلى الكنيسة وأتغنى بالترانيم مع أعضاء النادي الآخرين» وفق تعبير دراسة لأستاذ في جامعة كولومبيا الأمريكية.
التعامل مع القوانين التي تحكم التجارة العالمية بالسلع والبضائع ثلاث طرق:
الأولي: رفع الدولة لمستوى العوائق الجمركية لتغلق بذلك على نفسها باب التجارة وتغرق مواطنيها بالفقر أكثر مما كانوا. وكمثال على تأثير التجارة على العمال الفقراء، أثبتت الإحصائيات أن 10% من المواطنين الأميركيين الأكثر فقراً يربحون 62% من قوتهم الشرائية عن طريق التجارة.
الثانية: أن تفعل الدول العكس، فتخفض من العوائق والتعرفات الجمركية لتضمن استمرار تدفق البضائع. ولقد أثبتت مثل هذه المبادرات نجاحها في معظم الأحوال. وفي الولايات المتحدة لا تتعدى عوائد التعرفات الجمركية 2% من أصل القيمة الإجمالية للواردات.
الثالثة: تركيز الدول على تطويع التدابير المعتمدة على الحدود حتى تضمن الحد من المنافسة وبحيث تصبح التجارة «عادلة».
على أن الضرورات الجيواستراتيجية الكبرى للاتفاقية لم تتغير. وكان من الواضح أن الولايات المتحدة تريد من خلالها الاحتفاظ بموقع القيادة في منطقة آسيا والهادي. وكما سبق للرئيس السابق باراك أوباما أن قال عدة مرات، إذا لم تتبنّ الولايات المتحدة تلك القواعد والمعايير الجديدة في تجارة المستقبل؛ فإن الصين سوف تسبقها إلى ذلك، وهذا لا يصب في مصلحة العمال الأميركيين.
إن خريطة الاقتصاد العالمي تتغير خلال الوقت الراهن. وأظهر اجتماع دول RCEP أنّ توازن القوى الاقتصادية والدبلوماسية صار يميل بوضوح نحو الصين وليس الولايات المتحدة الأمريكية. وتسعى الصين لتلك، لاتفاقية تجارة حرة آسيوية باسيفيكية كبديل تصفها بأنها ستكون مبادرة استراتيجية مهمة للازدهار الآسيوي الباسيفيكي طويل الأجل. وبدا واضحاً أنّ دول RCEP التي يبلغ إجمالي الناتج المحلي لها حتى من دون الولايات المتحدة، 40% من إجمالي الناتج المحلي العالمي، ونصف حجم التجارة العالمية. ولذلك، فإن ذلك التكتل التجاري الذي تقوده الصين هو الأكبر عالمياً. وستكون بمثابة أساس وركيزة لاتفاقية تجارة حرة آسيوية باسيفيكية واسعة، ويبدو أن التوجه لقيام اتفاقيات تجارة حرة تحت القيادة الصينية يكتسب المزيد من القوة والزخم والقدرة على التأثير، وهو لن يجلب مجرد آثار اقتصادية هائلة للصين؛ وإنما أيضاً قوة وثروات ضخمة تبلغ 88 مليار دولار.
إن السقوط المؤكد للمشاركة عبر الباسيفيك والظهور المرتقب لاتفاقية التجارة الحرة الآسيوية الباسيفيكية هي أدلة واضحة على أن النظام التجاري العالمي السائد على وشك التغيير الكامل في وقت قريب.

* كاتب مصري
التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

​كاتب مصري - أستاذ للعلوم السياسية والاقتصادية

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"