تجارة الصندوق الأسود

00:57 صباحا
قراءة 3 دقائق
د. عبدالعظيم محمود حنفي

إن تجارة الصندوق الأسود أو التداول عالي التواتر، هي مباراة بين الإنسان والآلة. وعلى الرغم من أنها لا تخلق هي نفسها عدم تماثل أو عدم تكافؤ في الفرص وتضيف بالفعل لسيولة السوق فإن التداولات عالية التواتر، يبدو أنها تضع وتيرة التفكير المتروّي للإنسان في وضع غير مواتٍ.
فالتداول عالي التواتر هو أحد ابتكارات التداول الإلكتروني في الأوراق المالية، وتجارة الصندوق الأسود المعروفة بالتداول عالي التواتر. وهذا التداول يستخدم حاسبات عالية السرعة، تحكمها تعليمات للكمبيوتر لتحليل البيانات، وتحديد فرص الاستثمار، وإدارة تدفّق الأوامر إلى الأسواق.
فبإمكان شركة للتداول عالي التواتر، أن تقدّم ألف طلب في دقيقة إلى البورصة، وأن تلغيها بالسرعة نفسها، وتقدّم غيرها. وتشير التقديرات إلى إلغاء 90% من الأوامر التي يقدّمها التداول عالي التواتر. فعلى سبيل المثال، إذا كان شراء سهم بسعر 9,9 دولار مطلوباً، وكان هناك عرض للبيع بسعر 10 دولارات، فإن شركة التداول عالي التوتر تحاول الحصول على ربح صغير، ولكنه قليل المخاطر برفع سعر الشراء إلى 9,91 دولار، وتخفيض سعر البيع إلى 9,99 دولار، إذا ما رأى حساب المنوال أن الاحتمالات كافية لأن تُطلق هذه التغييرات إشارة لإتمام صفقات فورية.
وإذا ما أسفرت عروض الأسعار المحسنة هذه عن صفقات فورية، فإن شركة التداول عالي التواتر، تكسب فرقاً بين سعري الشراء والبيع، قدره 8 سنتات، على كل سهم يتم بيعه بهذه الطريقة. وتكمن المخاطرة في أن مرحلة واحدة من الصفقة ستنفّذ فوراً، مع تأجيل تنفيذ المرحلة الثانية لما بعد حدوث تغيير في أسعار السوق، مما تنجم عنه خسارة.
فإذا ما اشترت شركة تداول عالي التواتر بسعر 9,91 دولار للسهم، ثم لم تجد مشترياً بسعر 9,99 دولار، وانخفض سعر السوق إلى أقل من 9,91 دولار، فستتعرض لخسارة في الأجل القصير. ويمكن أن تقلّل تداولات عالية التواتر من فوائد طلبات التوقف بالنسبة للمستثمرين العاديين، الذين يستخدمونها كوسيلة لإدارة مخاطرهم.
ويمكن أن تحوّل خطأ ما، كأمر بيع كبير خاطئ إلى حادث يشيع الاضطراب بصورة منهجية عن طريق إثارة ردود فعل آلية أخرى، نتيجة الخطأ الأول في اللحظة نفسها تقريباً. وقد يكون للتفاعل بين برامج التداولات عالية التواتر المتنافسة، عواقب غير متوقعة.
وتتعامل شركات التداول عالي التواتر بمبالغ ضخمة. وقدّرت إحدى شركات بحوث الأسواق المالية أرباح شركات التداول عالي التواتر عام 2008، ب21 مليار دولار، وهي سنة لم تكن سهلة بالنسبة للأسواق المالية. ويستثمر أكبر سماسرة الأسواق المالية والتجار الوسطاء في تداولاتها، مثل «جولدمان ساكس»، وأكبر صناديق التحوّط مثل «سيتاديل»، والشركات المستقلة مثل «جتجو»، بشكل كبير في أجهزة الكمبيوتر الفائقة والبرمجيات المصممة لهذه الأعمال.
وتولّد شركات التداول عالي التواتر 73% من إجمالي حجم التداول في أسواق الأوراق المالية الأمريكية، ونحو 20% من بورصات عقود الخيارات.
وهناك مخاوف على الصالح العام من شركات التداول عالي التواتر؛ إذ يجادل بعض النقاد بأن الوتيرة السريعة لأقصى حد في هذا التداول، تُسفر عن تغيرات أكبر ومفاجئة بدرجة أشد في أسعار السوق، استجابة لأخبار وأحداث مهمة.
وتشبه هذه المخاوف تلك التي أُثيرت عقب انهيار سوق الأوراق المالية عام 1987، عندما أصبح الاهتمام منصباً على عمليات التداول المبرمج، التي كانت تولّد بصورة آلية أوامر للبيع في عمليات تداول على عقود مستقبلية، مربوطة بمؤشر لأسعار الأسهم في بورصة شيكاجو التجارية، كلما انخفض سعر الأوراق المالية ذات الصلة في بورصة نيويورك.
ومن مصادر القلق أن شركات التداول عالي التواتر، تجعل ساحة المباراة أقل تنافسية، مما يجعل وسطاء التداول في وضع أقل مواتاة، بالمقارنة مع بقية السوق. فالأوامر التي يُصدرها العملاء لها أولوية على تلك التي يُصدرها وسطاء التداول.
ويرجع أساس هذه الأولوية إلى شريعة أن الأسواق قامت بالدرجة الأولى من أجل العملاء، وأن دور وسطاء التداول، هو أن يتدخّلوا فقط عندما يقتضي الأمر منهم توفير سيولة تجارية، أو للحفاظ على سوق ذات جانبين لعروض أسعار الشراء والبيع.
والمشكلة هي أن أوامر شركات التداول عالي التواتر، تعمل أحياناً بنفس طريقة صنّاع السوق، بتوفير السيولة وفرق ضيق بين سعر الشراء والبيع، ولكن القائمين بتداول عالي التواتر يمكن أن ينسحبوا من سوق غير مستقرة أكثر من اللازم، أو التي تتم فيها عمليات التداول ببطء أكثر مما يجب. وبهذه الطريقة فإنهم يأخذون الصفقات من وسطاء التداول في الأوقات الطبيعية عندما تكون المخاطر طبيعية، ويتركون لوسطاء التداول الالتزام بصنع الأسواق عندما تكون أكثر خطورة وأقل ربحاً، خاصة في سوق يسوده عدم النظام.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

​كاتب مصري - أستاذ للعلوم السياسية والاقتصادية

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"