“دبلوماسية المدفع” والدين العام

04:16 صباحا
قراءة 4 دقائق

منذ بداية العام 2010 ترزح اليونان تحت عجز خزيني خطير جعلها مرتهنة لمساعدات صندوق النقد الدولي وشركائها الأوروبيين . هؤلاء فوجئوا عندما قرر رئيس الوزراء السابق جورج باباندريو طرح خطة الاصلاح المالي الأوروبية على الاستفتاء الشعبي بذريعة مساسها بالسيادة الوطنية . ففي نظرهم انتهت هذه السيادة بمجرد أن ممثلي اليونان لم يدعوا للمشاركة بالمفاوضات الأوروبية، في بروكسل في 26 و27 أكتوبر/تشرين الأول الماضي المتعلقة بمستقبل بلادهم . بل إن مندوبي ألمانيا لم يترددوا في اقتراح أن تتخلى اليونان عن بعض جزرها من أجل تقليص دينها العام .

وهكدا فإن ضياع السيادة على الأراضي الوطنية يبقى خياراً مطروحاً وان كان في غاية الصعوبة . وقد سبق أن حصلت مثل هذه السابقة عندما تخلت نيوفاوندلاند (القريبة من الساحل الشرقي لكندا وعاصمتها سانت جونز) عن ديمقراطيتها واستقلالها، في العام ،1934 تحت عبء ديونها الخارجية الهائلة . لقد تم حل البرلمان وقتها وشكّلت لندن لجنة من موظفيها لإدارة الجزيرة . واليوم تعود مسألة السيادة لتطرح نفسها بمناسبة وقوع دول سيدة مستقلة تحت عبء ديون عاجزة عن سدادها .

في الواقع تحمل الاستدانة الكثير من المخاطر إذا لم يكن هدفها استثمارات مربحة . فتفاقمها يقلّص من حرية استخدام الدولة لمواردها ومن ثقة الدائنين بتوقيعها، الأمر الذي يحرمها من تمويلات جديدة قد تحتاج اليها . وعندما يشعر المستثمرون بالقلق إزاء الوضع المالي لبلد ما فإنهم يرفعون من نسب الفوائد عليه ويطالبونه بالمزيد من الضمانات قبل أن تتدخل وكالات التصنيف والمحللون الاقتصاديون في غير مصالحه وسمعته .

والسيطرة على الدين العام أمر ضروري لتقليص مخاطر العجز الخزيني المفرط والانكشاف المالي للدول . لهذا السبب التزمت دول اليورو بتقليص دينها العام وعجزها الخزيني، لكنها ما تزال تتفاوض حول وضع قواعد صارمة ملزمة يعتبرها البعض تهديداً للسيادة الوطنية . والخطر الحقيقي الذي يتهدد هذه السيادة هو عندما لا تعود الدولة قادرة على التوجه للقنوات التقليدية للتمويل فتضطر إلى طلب المساعدة الخارجية . فهكذا مساعدة، سواء أتت من صندوق النقد الدولي أو الاتحاد الأوروبي أو من اتفاقيات ثنائية، تقابلها دوماً شروط . وعلى سبيل المثال عندما قدمت روسيا مساعدات مالية لحليفتها بيلاروسيا فرضت عليها شروطاً سياسية . وخبراء صندوق النقد الدولي، عندما يحطون في عاصمة دولة طالبة للمساعدة، فإنهم ينكبون على دراسة ملفات ماليتها العامة ويفرضون عليها خططاً اصلاحية يضطر البرلمان إلى إقرارها خوفاً من تعليق أو وقف المساعدات أو ربما ذهاب الامور إلى أبعد من ذلك .

ففي حال عجز الحكومة عن وقف تقدم الدين العام الخارج عن السيطرة قد يوضع البلد تحت الوصاية الأجنبية، هكذا بكل بساطة . وهذا بالتحديد ما جرى الكلام عنه في سبتمبر/أيلول الماضي بالنسبة لليونان .

هذا التعرض العنيف للسيادة الوطنية هو حل راديكالي وغير ديمقراطي بالتأكيد، بل إنه كولونيالي بحسب بعض المحللين . وتشكل مصر، في العام ،1875 مثالاً صارخاً في هذا المجال، عندما تضاعف حجم دينها العام ثلاثاً وثلاثين مرة في عشر سنوات وباتت عاجزة عن سداده . كانت قد اضطرت إلى الاستدانة من المصارف الأوروبية لتمويل أشغال بنية تحتية تنفّذها شركات أوروبية وفي الوقت نفسه لتلبية رغبات الخديوي اسماعيل في البذخ والاسراف . وقام الفرنسيون والبريطانيون بوضع البلد تحت الوصاية عبر ممارسة رقابة دائمة ثنائية: لسنوات عديدة بات مصرفيّ انكليزي وزيراً لمالية مصر وآخر فرنسي وزيراً لأشغالها العامة، قبل أن يوضع البلد رسمياً تحت الحماية في العام 1882 .

بالطبع يبدو هذا السيناريو في العام 2012 في حالة اليونان (مصرفي ألماني وزيراً لماليتها . . .) غير واقعي على الاطلاق . لكن ماذا عندما يرفض بلد ما الخضوع للشروط في سبيل سداد ديونه؟

حتى بداية القرن العشرين كان هناك دبلوماسية المدفع كما دلت عليها العملية العسكرية الالمانية-البريطانية-الايطالية المشتركة في العام 1902 ضد الموانىء الفنزويلية، قبل أن يحظر اتفاق دراغو بورتر في العام 1907 اللجوء إلى القوة في سبيل استعادة ديون سيادية إلا في حالة قيام البلد المعني بإعاقة التحكيم أو رفض تنفيذ قراراته . لكن الولايات المتحدة تذرعت بالاتفاق من أجل وضع جمهورية الدومينيكان تحت وصايتها فسيطرت على موانئها وعائداتها الجمركية للاستحصال على ديون مستحقة قبل أن تعمد إلى احتلالها في العام ،1916 وكان يجب انتظار شرعة الأمم المتحدة العام 1946 كي تنتهي حروب الدين السيادي وبات على الدائنين الامتناع عن الخيار العسكري لمصلحة التفاوض مع الدولة المديونة من أجل إعادة هيكلة ديونها .

والحقيقة ان العجز عن سداد ديون خارجية يجعل الدولة في حالة عدم استقرار خطيرة . فالصناديق السيادية والدول والمؤسسات المالية الدولية تستطيع التدخل عندئذ في إدارة البلد المديون نفسه عن طريق فرض شروطها . وتغدو الديون موضوعاً لجدال سياسي داخلي ساخن ولانقسامات واضطرابات حادة . فالجدل يحتدم حول من يتوجب عليه سداد الدين العام: الأغنياء أم المتقاعدون أم العمال . . .؟ وبالنسبة للدول الغربية الأكثر ارتباطاً بالدائنين الاجانب نلاحظ ظاهرة خطيرة هي تحوّل ثرواتها نحو الاقتصادات الناشئة . لذلك تفرض الديون العامة نفسها كخلفية لقراءة بعض الاضطرابات الجيوبوليتيكية في يومنا هذا .

خبير اقتصادي

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دكتوراه دولة في العلوم السياسية وشغل استاذاً للعلاقات الدولية والعلوم السياسية في الجامعة اللبنانية ومشرفاً على اطروحات الدكتوراه ايضاً .. أستاذ زائر في جامعات عربية وفرنسية.. صاحب مؤلفات ودراسات في الشؤون الدولية باللغتين العربية والفرنسية.

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"