الفيروس بين العلم والسياسة

02:12 صباحا
قراءة 3 دقائق
الحسين الزاوي

ملأ الكائن المجهري المعروف بالفيروس التاجي، الدنيا وشغل الناس وأضحى من الصعب الحديث في هذه المرحلة عن قضايا سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية دون أن يكون للفيروس المستجد النصيب الأكبر من النقاش وبخاصة بعد انتشاره في مجموع الكرة الأرضية، وأدى لأول مرة في التاريخ إلى فرض حجر صحي في البيوت على حوالي 3 مليارات من البشر. بيد أن السجال المثير للانتباه بشأن هذه الجائحة، يتعلق بعلاقة رجال السياسة بالعلماء وبخاصة الأطباء والمختصين في علم الأحياء والأمراض الوبائية، وقد تحوّل هذا السجال إلى مواجهة مفتوحة في العديد من الدول الكبرى من الصين إلى الولايات المتحدة الأمريكية مروراً بفرنسا وإيطاليا، الأمر الذي يطرح بجدية أسئلة إجرائية مهمة بشأن العلاقة بين السياسة والعلم استئنافاً للنقاش التقليدي بشأن العلاقة بين الثقافي والسياسي.
لقد اشتكى بعض العلماء في مختلف الدول شرقاً وغرباً، من عدم أخذ تحذيراتهم على محمل الجد بشأن الوباء من طرف السياسيين وقادة الدول، قبل تفشّيه على نطاق واسع. ومن المؤكد أن الغالبية الساحقة من الرأي العام العالمي مازالت تتذكر التحذير الذي أطلقه الطبيب الصيني لي وينلاينج، الذي كان السبّاق إلى تنبيه سلطات بلاده إلى خطورة الوباء في 30 من شهر ديسمبر/ كانون الأول 2019، قبل أن يُتهم مع زملائه الأطباء بالعمل على نشر الشائعات في البلاد. ورغم قيام المسؤولين الصينيين برد الاعتبار للطبيب وينلاينج إلاّ أن وفاته في 7 من شهر فبراير/ شباط، أثارت موجة من السخط والتنديد في الأوساط الطبية على خلفية التعنيف الذي تعرض له مع بداية انتشار المرض في مقاطعة ووهان الصينية.
وتكرّر المشهد نفسه في أوروبا عندما رفض السياسيون في إيطاليا أن يأخذوا التحذيرات بشأن الوباء بالجدية المطلوبة، وذهب بعضهم إلى توصيف المرض على أنه مجرد «إنفلونزا موسمية»، قبل أن تتحوّل المدن الإيطالية إلى أخطر بؤرة لتفشي الفيروس التاجي في العالم لتحطِّم إيطاليا بذلك رقماً قياسياً تعيساً في عدد الوفيات. كما رفض في فرنسا الرئيس ماكرون اتخاذ الإجراءات الاستعجالية مع بداية انتشار المرض انطلاقاً من حسابات اقتصادية وسياسية ضيقة، وذلك قبل أن يؤسّس مجلساً علمياً مؤلفاً من كبار الخبراء لاستشارتهم بشأن القرارات الواجب اتخاذها لمواجهة هذه الجائحة. وظلت فرنسا بالرغم من ذلك تشهد جدلاً كبيراً بشأن دواء الكلوروكين الذي اقترحه البروفسور ديدييه راوول لمعالجة المرضى المصابين بالفيروس التاجي، والذي رفضت السلطات الفرنسية اعتماده لعلاج مرضى الوباء، قبل أن تخضع للضغوط الداخلية وتقرر وزارة الصحة السماح للأطباء بوصفه للحالات الخطيرة يوم 26 مارس/آذار الماضي.
أما في الولايات المتحدة الأمريكية فإن ضجيج السجال بين العلماء والساسة كان أكثر بروزاً بحكم الطابع المتقلب لشخصية الرئيس ترامب الذي يسعى إلى اعتماد سياسة شعبوية لا تؤمن بالنخب، لذلك فقد تحدث الساسة الأمريكيون في بداية الأمر عن الفيروس وكأنه شأن خارجي لا يعني الولايات المتحدة. وقد حاول الدكتور أنتوني فاوتشي في سياق ردّه على تصريحات ترامب غير الدقيقة بشأن الفيروس، أن يصحّح المفاهيم للشعب الأمريكي ويحذره من خطورة الوباء في اللقاء الصحفي الذي احتضنه البيت الأبيض يوم 20 مارس/ آذار، ورفض أن يعطي لمواطني بلاده معلومات خاطئة بشأن علاج أعراض الوباء، وذلك في الوقت الذي تحدث فيه ترامب بكثير من الاندفاع عن مسائل علمية لا يفقه فيها شيئاً.
ونستطيع أن نؤكد في هذه العجالة أن خلافات ترامب مع الهيئات العلمية في بلاده ليست وليدة اليوم، بل بدأت تتخذ مساراً تصاعدياً بعد سنة من توليه مقاليد الحكم. إذ إنه وفي سياق دعمه للكارتل البترولي الذي سانده أثناء حملته الانتخابية، قام الرئيس الأمريكي بتجاهل كل الأعمال العلمية التي أنجزها العلماء في المختبرات الأمريكية بشأن التغيرات المناخية ورفض اتفاق باريس حول المناخ جملة وتفصيلاً بالرغم من كل التحذيرات التي وجهت له في هذا الشأن.
وعليه فإنه ونتيجة للطابع المعقد لمثل هذه الوضعيات الطارئة، علينا أن نعترف أن العلاقة ما بين العلم والسياسة ليست مسألة بسيطة يمكن أن نقدم بشأنها أحكاماً قطعية، لأن البشرية لا تعيش في مدينة فاضلة، فهناك تحديات كثيرة ترتبط بالحسابات السياسية والاقتصادية والمجتمعية، يجد القادة السياسيون أنفسهم مرغمين على أخذها في الحسبان قبل اتخاذ قراراتهم بشأن الأزمات الصحية الكبرى، ومع ذلك فإن الدول وقياداتها السياسية لن تخسر شيئاً، بل إنها ستكسب الكثير، إذا عمِلت على تأسيس هيئات علمية قوية وذات صلاحيات دقيقة ونافذة تسمح للشعوب بالتقليل من الآثار الخطيرة للأمراض والأوبئة التي باتت تشكل علامة مميّزة منذ مطلع الألفية الجديدة.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

أستاذ الفلسفة في جامعة وهران الجزائرية، باحث ومترجم ومهتم بالشأن السياسي، له العديد من الأبحاث المنشورة في المجلات والدوريات الفكرية، ويمتلك مؤلفات شخصية فضلا عن مساهمته في تأليف العديد من الكتب الجماعية الصادرة في الجزائر ومصر ولبنان

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"